بأسلوبه الرشيق والخاطف، وبلغة عربية جميلة، يتحدث الأستاذ العزبي في كتابه “الصحافة والحكم” عن موضوع مثير وخطير في حياة مصر والمصريين، فالغموض يحيط به، وعشرات التساؤلات تطرح نفسها عند كل مرحلة من مراحل التطور الوطني والسياسي المصري
هذا الموضوع يتعلق “باليهود في مصر” من عصر “موسى بن ميمون” الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي، ومستشاره السياسي، إلى ليلى مراد، وعصر الفن الجميل.
اليهود في مصر كما جاءت سيرتهم في كتاب الأستاذ العزبي هم ثلاث فئات، أولهم وأشهرهم من عمل في مجال الفن، مثل ليلى مراد وراقية إبراهيم ونجمة إبراهيم، وقبلهم داؤود حسني، ويعقوب صنّوع مؤسس المسرح المصري الحديث، أمّا الفئة الثانية فهم رجال المال والأعمال، ومن أهمهم: شملا وشيكوريل وصيدناوي ويوسف قطاوي وداؤود عدس وغيرهم.
أما الفئة الثالثة فهم رجال السياسة، وخصوصا من عمل في أحزاب وتنظيمات اليسار الماركسي، مثل هنري كورييل ويوسف درويش ولطف الله سليمان، وأحمد صادق سعد وريمون دويك وغيرهم.
عن الفئة الثالثة سيكون حديثي فالقارئ لتاريخ الحركة الوطنية المصرية سيجد اسهامات هؤلاء الرجال في تاريخ مصر من زاوية مُحددة ومثيرة وثرية، فالأستاذ عبد الرحمن الرافعي، لم يتوقف كثيرا عند رصد الحركة السياسية بوجهها اليساري، حتى جاء الأستاذ طارق البشري، في كتابه الرائع “الحركة السياسية في مصر ١٩٤٥ / ١٩٥٢” الصادر في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ليكشف الغطاء عن تاريخ ما أهمله التاريخ، بيد أن الدكتور رفعت السعيد -رحمه الله- فاجأ جمهور الباحثين والمُثقفين بكتابه “الحركة الاشتراكية في مصر” ليؤرخ لتاريخ الشيوعية في مصر بتأسيس الحزب الشيوعي المصري عام ١٩٢١، ويحصل بهذا الكتاب على درجة الدكتوراه في فلسفة التاريخ من إحدى الجامعات ألمانيا الديمقراطية، قبل وحدتها مع ألمانيا الغربية خريف1990، بعدها صدرت دراسات كثيرة للدكتور رفعت، يضيق المجال عن ذكرها فقد بلغت عدة مجلدات أتت على تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى بات ما كتبه مرجعا أساسيا لمن يريد أن يعرف عن تاريخ الشيوعية في مصر في مختلف مراحل التطور الوطني.
لكن هناك من زامل الدكتور رفعت السعيد في الحركة الشيوعية وفي حركة الكتابة والتأريخ، منهم من كان زميله مثل الأستاذ أبو سيف يوسف والدكتور فخري لبيب، الذين كتبوا مجلدات، وإن كان كل منهم قد تحدّث من موقع التنظيم الذي كان ينتمي إليه، بخلاف الدكتور رفعت الذي تحدث عن كل المنظمات، ولكن برؤية سياسية تحمل بعض التعاطف مع التنظيم الذي كان ينتمي إليه، وأعني الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، المعروفة اختصارا بـ”حدتو”.
غير أن الدكتور شريف حتاتة، قد تناول الحركة الشيوعية المصرية برؤية ابداعية أقرب الى السيرة الذاتية، كما في روايتيه “العين ذات الجفن المعدنية”، و”جناحان للحرية” وهما من أجمل الأعمال التي أرّخت للحركة الماركسية في سنوات الأربعينيات عندما كان الدكتور شريف، طالبا في كلية طب القصر العيني، وزميلا للأستاذ العزبي في مقاعد الدراسة لا خلايا التنظيمات الشيوعية المصرية بأسمائها المتنوعة.
الأستاذ العزبي توقف عند ثلاثة أسماء من قادة الحركة الشيوعية من أصول يهودية هم يوسف درويش، وأحمد صادق سعد، وهنري كورييل وبعض الشخصيات الأخرى التي أتى على ذكرها سريعا مثل ريمون دويك وشحاتة هارون وغيرهم.
عن يوسف درويش جاء التعريف به من واقع أنه من اليهود الذين تمسكوا بالبقاء في مصر، وزار معتقلاتها منذ الأربعينيات والخمسينيات والسبعينيات، ومات متجاوزا العقد التاسع من عمره، غير أنه قضى عمره مُدافعا عن قضايا العمال والفقراء المصريين، فضلا عن نشاط ثقافي في الكتابة والترجمة والتأليف، واختار منذ كان شابا النضال السياسي اليساري، فبدت تلك المعلومة التي أتى على ذكرها الأستاذ العزبي في كتابه، جديدة على من قرأ عن الرجل وأنا منهم، فقد ذكر أن يوسف درويش أسس تنظيما يساريا عندما كان يدرس في جامعة تولوز بفرنسا ضم معه الدكتور حامد سلطان الخبير العالمي في القانون الدولي فيما بعد، والدكتور كامل بهاء الدين والد الدكتور حسين كامل بهاء الدين، أول أمين عام لمنظمة الشباب في عهد عبد الناصر ووزير التعليم في عهد مبارك.
سيرة مُشرِّفة لمناضل يساري كبير، تمسك بمصريته طوال عمره، مُعتزا بدخوله الإسلام عن قناعة وإيمان، غير أننا مثل كل المصريين لم نذكر عن يوسف درويش، سوى أنه جد الفنانة بسمة ابنة زميلنا الصحفي في جريدة الأهالي الأستاذ أحمد السيد حسن، وابنة زميلتنا في حزب التجمع نولة يوسف درويش.
الحديث يطول عن باقي تلك المجموعة الوطنية التي تمسكت بمصريتها، ولم تخضع لإغراءات إسرائيل والصهيونية العالمية، بالخروج من مصر والعداء لمصر، وبقيت في مصر تدافع عن الوطن والإنسان، فقد ضحّى، شحاته هارون زميلي في اللجنة السياسية في حزب التجمع والتي كان يرأسها الدكتور يحيى الجمل -رحمه الله- في زمن رئاسة الأستاذ خالد محيي الدين لحزب التجمع.
لقد ضحّى بحياة ابنته التي لم يجد علاجا لمرضها الخطير سوى في فرنسا، وإذا خرج لن يعود الى مصر، فاختار بكل حسم البقاء في مصر دون أن يفقد جنسيته ومصريته، راضيا بنفس مطمئنة أن يواري ابنته ثرى الوطن الطاهر.
وعن أحمد صادق سعد، وهنري كورييل، تحدّث الأستاذ العزبي بإشارات خاطفة، تدعوني وتدعو معي كل من قرأ كتابه، أن يطيل الحديث عن هذه الشخصيات التي أثرت حياتنا الثقافية والفكرية والوطنية، فقد تخصص أحمد صادق سعد، في دراسة نمط الإنتاج الآسيوي في أكثر من مُجلد، في عملية أشبه بإحياء مُعاصر لكتابات كارل ماركس وفريدريك إنجلز عن “أصل العائلة والملكية الخاصة والطغيان الشرقي” برغم ملاحظاتي عَلى بعض اجتهاداته النظرية، كذلك عند الحديث عن هنري كورييل اليهودي الماركسي المصري، الذي تحوّل بعد خروجه من مصر إلى داعية للسلام ومساعدة حركتي التحرر الوطني الجزائري والفلسطيني، والذي سارع بمد مصر بمعلومات مُبكرة عن العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، والتي نقلها إلى صديقه الدكتور ثروت عكاشة عندما كان مُلحقا عسكريا لمصر في باريس، فجنّبَ الوطن ثمنا فادحا من الأرواح والأموال والمكانة الدولية، كان من الممكن أن تدفعها مصر دون هذا الحُب.
لم تنتهِ حكايات الأستاذ “محمد العزبي عن تاريخ الوطن عند هذا الحد، بل أفاض في كشف الأسرار بأسلوب رائع وراقٍ وجميل، غير أنني من فرط حبي لمَ جاء به من أحاديث ووقائع أجد نفسي مُطالبا إياه بالتوسع في بعض هذه الأحداث، فقد اكتفى في الكثير منها بالإشارة دون الإفصاح.. التلميح دون التصريح!
ولذلك أرجوه أن يأخذ من بعض هذه الوقائع والأحداث ليجعل منها عملا جديدا، يُلقي الضوء على جوانبها المُخْتَلِفةِ وآفاقها الثرية والمُتعددة، لكي تكون الصورة كاملة، ويُشفي غليل من هم من أبناء جيلي بمعرفة المزيد ممن لا نعرفه.
أما مسئولية الأستاذ العزبي تجاه الجيل الحديث والمعاصر، والذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والأربعين، فهي مسئولية كبيرة وخطيرة، فالكثير منهم لا يعلم شيئا عن تلك الوقائع والأحداث التي جاء على ذكرها في كتابه، فهم الجيل الأهم، هم أصحاب القلوب الشابة والعقول المُتحررة، كما وصفهم صديقه الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما أسس مجلة صباح الخير، عام ١٩٥٦، وتكون شعارا وهدفا لها حتى اليوم.