رغم أن منصب منصب الإمبراطور في اليابان له دلالات رمزية ومراسمية، ترتبط بهوية وتاريخ الشعب الياباني، أكثر مما له دلالات سياسية فعلية؛ إلا أن التحولات التاريخية في العلاقات اليابانية مع العالم الخارجي ترتبط دائما بتولي إمبراطور جديد مهام الحكم.
كان ناروهيتو قد توّج في أول مايو عام 2019، بعد أن أصبح والده أكيهيتو، أول إمبراطور يتنازل عن العرش منذ قرنين من الزمان.
ومن ثم، يمكن ملاحظة كيف تبدى شعار “التناغم الجميل” الذي أطلقه ناروهيتو، على مواقف اليابان من كثير من القضايا الدولية، ومن بينها العلاقات بين اليابان والعالم العربي.
في هذا الإطار، يمكن تناول أهمية التقارب الاقتصادي والمصالح المشتركة، في العلاقات العربية اليابانية، ودرجة تطورها من منظور مستقبلي؛ خاصة وأن هذه العلاقات ليست وليدة اللحظة، بل تمتد إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان.
إضافة إلى أن اليابان تُعد ضمن أكبر الدول، من منظور الاستثمار في المنطقة العربية، حيث تحتل المرتبة “العاشرة”؛ فإنها تُعتبر في الوقت نفسه، من أهم الشركاء التجاريين للدول العربية. إذ تأتي في المرتبة “الثالثة” بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
فمنذ انطلاق أعمال المنتدى الاقتصادي العربي الياباني، على المستوى الوزاري، عام 2009، بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين، حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي، نحو 106.4 مليار دولار، ثم وصل في عام 2016، وهو العام الذي أُقيمت فيه الدورة الرابعة للمنتدى في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، إلى نحو 166.8 مليار دولار؛ فيما وصل حجم الاستثمارات اليابانية في الدول العربية نحو 4.4 مليار دولار خلال الفترة 2006-2016.
وبحسب ما يذكر الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، في 5 سبتمبر 2023، فإن حجم التبادل التجاري بين الدول العربية واليابان وصل إلى نحو 114 مليار دولار؛ بما يعني أن اليابان تُصنف ضمن أهم الدول المستثمرة مع الدول العربية. وقد جاء ذلك، في أثناء الاجتماع الثالث على المستوى الوزاري بين الجانبين.
ومن الواضح، بناءً على ذلك، أن المنتدى الاقتصادي لم يكن مجرد حادث عابر في العلاقات العربية اليابانية، بقدر ما كان تطورًا على منحنى العلاقات بينهما؛ فمنذ بروز اليابان كقوة اقتصادية وتكنولوجية على الساحة الدولية، مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين الماضي، أدركت أهمية اعتمادها على نفط الشرق الأوسط عمومًا بصورة شبه كلية.
والواقع.. أن التأثير الحيوي للموارد النفطية، خصوصًا العربية، على الاقتصاد الياباني، الذي يُمثل “ثالث” اقتصاد على المستوى العالمي، يبدو بوضوح إذا لاحظنا كيف تزايد الطلب الياباني عليه، من 80 % من إجمالي الواردات النفطية اليابانية عام 1995، إلى أكثر من هذه النسبة عام 2007، حتى وصل، بحسب تقديرات عام 2022، إلى ما نسبته 90 % من الإجمالي العام للنفط المستورد.
وبالتالي، فإن هذه النسبة الأخيرة التي تأتي من المنطقة العربية، وجوارها الشرق اوسطي، جعل منها أكبر منطقة لضمان احتياجات اليابان من النفط والغاز؛ بل ليست هناك منطقة أخرى في العالم لها مثل هذا التأثير الحيوي على رفاهية واقتصاد اليابان مثل هذه المنطقة.
ويكفي للدلالة على ذلك، أن السعودية لا تزال هي أكبر مصدر للنفط إلى اليابان؛ إذ استوردت اليابان نحو 30.9 % من احتياجاتها من المملكة في عام 2015، تليها الإمارات العربية المتحدة التي استحوذت على حصة 25% من السوق اليابانية، تليها الكويت بنسبة 8.3 %، ثم روسيا بنسبة 7.3 %. أما العراق وإيران، فكانت حصتهما السوقية أقل؛ فقد استوردت اليابان 1.9 % من العراق، وحوالي 6.2 % من إيران؛ وذلك بحسب البيانات الرسمية لوكالة الطاقة والموارد الطبيعية اليابانية، عام 2022.
فإذا حاولنا إدخال البعد الخاص بالعقوبات الأمريكية على إيران، خصوصًا في ما يتعلق بـ”تصفير” النفط وحظر تصديره، وأن نسبتها بالنسبة إلى السوق اليابانية لابد من تعويضها، لضمان المرونة الاقتصادية المتزايدة لليابان، لنا أن نتوقع التزايد المستمر لأهمية الدول العربية، خصوصًا الخليجية منها، بالنسبة إلى الاقتصاد الياباني.
إلا أن هذا لا يعني أن العلاقات العربية اليابانية، على مستوى التقارب الاقتصادي، تتوقف عند حدود النفط والغاز العربيين؛ بل، تمتد هذه العلاقات لتشمل التبادل التجاري أيضًا.
وبالرغم من التقارب الاقتصادي الواضح في العلاقات العربية اليابانية، إلا أن هناك الكثير من المصالح المشتركة بين الجانبين، تدفع إلى مزيد من نمو هذه العلاقات في المستقبل؛ خاصة أن التعاون الاقتصادي الياباني العربي فرض نفسه وتأثيراته على الجانب السياسي في العلاقات بينهما. تبدى ذلك بوضوح خلال المؤتمر الوزاري الأول للحوار السياسي العربي الياباني، في نوفمبر 2017، بالقاهرة، حيث أكد وزير الخارجية الياباني حينذاك تاروكونو، أن الشرق الأوسط على رأس أولويات اليابان، لأنه “يمثل عنصرًا هامًا كونه أحد العوامل التي بسببها تعيش اليابان في رفاهية”، ولأنه “المحرك الأول للاقتصاد الياباني” بحسب تعبيره.
وإذا كانت اليابان تهتم بالمنطقة العربية بوصفها مصدرا رئيسا للمواد الخام، خاصة النفط والغاز والمعادن، وسوقا كبيرا قادرا على استيعاب جزء له أهميته من منتجاتها الصناعية؛ فهي تبحث أيضا عن دور جديد في المشهد الدولي، وتسعى إلى إصلاح الأمم المتحدة والحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن، للمشاركة في صناعة القرارات الدولية؛ وبالتالي فهي تريد أن تحظى بالدعم العربي، في هذه الاهتمامات عمومًا، وفي قضايا أخرى مثل نزع السلاح النووي وحرية التجارة العالمية.
وعلى الجانب الآخر، يهتم العرب باليابان كقوة اقتصادية وسياسية عالمية، لتكون مساندة للقضايا والحقوق العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فضلا عن القضايا المستجدة مثل مكافحة الإرهاب وحفظ السلام والاستقرار في المنطقة. أضف إلى ذلك، الاهتمام العربي باليابان من حيث إنها تقدم نموذجًا فريدًا خاصة في عملية التطور المجتمعي؛ فقد استطاعت أن تلائم بين التقاليد الحضارية للمجتمع الياباني وبين الأفكار والمبادئ العصرية الحديثة.
هكذا، خرجت العلاقات العربية اليابانية من الإطار التقليدي المحدود إلى نطاق أوسع. فقد توسعت العلاقات الثنائية والإقليمية، من دائرة التجارة والاقتصاد إلى دوائر أخذت طابع المؤسسية في مجالات تعزيز التبادل العلمي وإعلاء ثقافة الحوار وقبول الآخر، ومكافحة التطرف والإرهاب.
وهكذا، أيضًا، لنا أن نتوقع المزيد من التقارب في العلاقات بينهما، في إطار تقاطعات المصالح المشتركة على الساحة الدولية، وفي سياق التحول المنتظر في السياسات الخارجية اليابانية عبر شعار “التناغم الجميل” الذي أطلقه الإمبراطور الجديد ناروهيتو، ودخلت به اليابان عصرًا جديدًا.