رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالات مصطلح “الطَّآئِفِينَ”

من حيث إن القرءان “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، “وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ” [الإسراء: 105]؛ والرسم القرءاني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيًا؛ بل وليس بالأصل سنيًا نبويًا، ولا إرشاديًا إماميًا؛ وإنما هو قرءاني توقيفي ترتيلي.. لذا قلنا ونقول ونؤكد، أن هناك ضرورة في محاولة الكشف عن دلالات الألفاظ والمصطلحات القرءانية؛ بل ومحاولة القيام بذلك عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها (اللسان القرءاني) وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها؛ بل وأسلوب كتابتها من خلال الرسم القرءاني.

إذ، لما كان المصطلح، أي مصطلح، هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى”، بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تمامًا، لها مُجَرَدْ واحد هو اسمها المأخوذ من، والدال في الوقت نفسه على، عملها وإنتاجها؛ ومن ثم يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا، يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معًا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.

بناءً على ذلك، لنا أن نُعيد التأكيد على أن “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.

ولعل أحد الأمثلة التي يمكن أن نذكرها -في هذا المجال- هو اختلاف رسم لفظ “طَآئِف” مع تثبيت حرف الألف في موضع، عنه في موضع آخر بغير الألف “طَٰٓئِف”؛ وهو اختلاف، من حيث الرسم القرءاني، له دلالاته. ومعنى “طائف”، من الطواف، والطواف بالشيء الاستدارة به أو حوله، يُقال طاف بالشيء إذا دار حوله.

في الموضع الأول، يقول سبحانه: “فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِف مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ” [القلم: 19]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن الفعل “طَافَ” قد أسند إلى “طَآئِف” أيضا، فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “وَهُمۡ نَآئِمُونَ”.

ومن ثم، يبدو بوضوح أن البلاء الذي طاف حولهم ووقع بهم، هو بلاء مادي عضوي، وليس مجرد “طيف” يراه النائم كما يذكر البعض. وبالتالي فإن “الألف” ثُبِّت في الفعل “طاف”، إنما ليؤشر إلى الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “طَآئِف”.

في الموضع الآخر، يقول تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِف مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ” [الأعراف: 201]؛ وهنا لنا أن نلاحظ أن الفعل “مَسَّهُمۡ” قد أسند إلى “طَٰٓئِف”. أيضا، فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، وذلك بعد أن “تَذَكَّرُواْ”.

ومن ثم، يبدو بوضوح أن التعبير عن ما “مَسَّهُمۡ… مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ” بأنه “طَٰٓئِف”، هو إشعار بأن “وسوسة” الشيطان، وإن مست هؤلاء “ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ”، فإنها لم تؤثر فيهم، لأنها كأنها “طافت” حولهم دون أن تصل إليهم. وبالتالي، فإن “الألف” لم يثبت في الفعل “طاف”، إنما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “طَٰٓئِف”.

والأهم، في هذا الإطار، أن نلاحظ أن “طَآئِف”، التي ثبت فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الأولى [القلم: 19]، إنما يُرَد إلى “مِّن رَّبِّكَ”؛ في حين أن “طَٰٓئِف”، التي لم يثبت فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الثانية [الأعراف: 201]، إنما يُرَد إلى “مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ”. أيضًا، أن نلاحظ أن حرف الفاء في “تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، هي لتفريع الإبصار على التذكر، بما يؤكد أن ارتباط “فاء” التعقيب بـ”إذا” الفجائية الدالة على الحتمية، تؤشر إلى حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث.. أي: إن الذين اتقوا، تذكروا تذكر ذوي عزم فلم تتريث نفوسهم بعد أن تَبين لها الحق الوازع عن العمل بالوسوسة الشيطانية، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم؛ حيث إن التذكر هو “استحضار المعلوم من قبل”.

أما بالنسبة إلى المصطلح في صيغة الجمع “الطَّآئِفِينَ”، فقد ورد في موضعين اثنين في آيات الذكر الحكيم؛ وفي الموضعين ورد المصطلح مع تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح.. كما في قوله سبحانه: “وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ” [الحج: 26]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ” [البقرة: 125].

وهنا، لنا أن نُشير إلى ملاحظتين:

الملاحظة الأولى، أن الآية الأولى ورد فيها التعبير القرءاني: “طَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ”،  في حين ورد في الآية الثانية التعبير القرءاني: “طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ”. وكما يبدو، فإن ورود مصطلح “ٱلۡعَٰكِفِينَ” في آية [البقرة: 125]، يأتي نتيجة أن الحديث في الآية عن البيت الحرام، كما يثشير إلى ذلك مُفتتح الآية “وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا”؛ ومن ثم، فـ”الاعتكاف”، الذي يُعبر عن الإقامة وملازمة المكان، يتناسب مع أهل البلد.

أما في آية [الحج: 26]، فيرد مصطلح “ٱلۡقَآئِمِينَ” من منظور أن الحديث في الآية عن موسم الحج، ومن الصعب “الاعتكاف” وقته؛ خاصة أن الآية الكريمة التي سبقتها، هي قوله عزَّ وجل: “إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ” [الحج: 25]؛ حيث “ٱلۡبَادِۚ” هو “القادم إليه من خارج مكة”

الملاحظة الأخرى، أن مصطلح “ٱلۡقَآئِمِينَ” ورد مُثبت فيه حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ فلماذا إذن ورد مصطلح “ٱلۡعَٰكِفُ” و”ٱلۡعَٰكِفِينَ” دون تثبيت حرف الألف؟.. وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock