الغيب لغةً: ما غاب عن العيون، أو مايدل على “تستر الشيء عن الرؤية العينية” فـ”غياب الشمس” مثلا يعني غروبها. أما الشَّهَادَةِ لغة: فهي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”. وبالنظر في استخدام التنزيل الحكيم، يتبين أن الدلالة العامة لمصطلح الغيب: هي الخفاء والستر؛ والدلالة العامة لمصطلح “الشَّهَادَةِ” هي الظهور.. فالغائب خفي مُستتر، والمشهود ظاهر بيِّن.
وقد اقترن مصطلحي “ٱلغَيبِ” و”ٱلشَّهَٰدَةِ” في القرءان الكريم، في أكثر من موضع، بمصطلح “العلم الإلهي”، أي مصطلح “عَٰلِمُ” وذلك في اصطلاح واحد هو اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”؛ من حيث إن الله تبارك وتعالى هو الخالق لهذين العالمين، عالم الغيب وعالم الشهادة، وهو المُدبر لأمورهما المُصرِّف لأحوالهما.
وهنا، نُعيد التأكيد على ما كنا قد ذكرناه من قبل، من أن التعريف الإلهي لـ”الذات الإلهية”، يتبدى عبر ذلك الاصطلاح، اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ” [الحشر: 22].. وفي قوله سبحانه: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ” [الرعد: 9].. وفي قوله تعالى: “عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ” [المؤمنون: 9].. وفي قوله عزَّ من قائل: “ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ” [السجدة: 6].. وفي قوله عزَّ وجل: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [التغابن: 18].
والمُلاحظ، أن اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”، الذي يتضمن “ثلاثة” مصطلحات: “عَٰلِمُ” و”ٱلۡغَيۡبِ” و”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يرد في أكثر من موضع، إضافة إلى تلك المواضع “الخمسة” السابقة.
فهو يرد في قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 73].. وفي قوله سبحانه: “يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [التوبة: 94].. وأيضا، في قوله تعالى: “وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [التوبة: 105].. وفي قوله: “قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ” [الزمر: 46].. وفي قوله: “قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [الجمعة: 8].
وهكذا، ورد اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”، في عشرة مواضع في آيات الله البينات.
“ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي بذلك تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.
ولعل مما له دلالة، في مسألة مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أن اعتناق الإسلام “دينا ومُسْتَقَرا” يبدأ بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله”؛ وهذه الشهادة بالتوحيد وبالاعتراف بالرسول، محمد عليه الصلاة والسلام، هي “البوابة الرئيسة” للدخول في هذا الدين “الإسلام”. ومن هنا، تتجلى أهمية هذا المصطلح الإنجازي، أي “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والوضع المميز له في الإسلام، وفي كتابه المبارك القرءان الكريم.
والمُلاحظ، أن الفعل “أشهد”، من المصدر الثلاثي “شَ هـِ دَ”، الذي تتعدد مشتقاته في آيات التنزيل الحكيم؛ فمنها: الفعل “شهد”، والأسماء “شهادة” و”مشهود” و”مشهد” بمعنى ما يشهد عليه؛ وأخيرا، من يقوم بفعل الشهادة، وله صورتين لسانيتين في القرءان الكريم: “شاهد” و”شهيد”، والجمع منهما: “شهداء” و”شهود”، وبصيغة قليلة الورود “أشهاد”.
ومن ثم، يمكننا إدراك كم يزخر مفهوم “ٱلشَّهَٰدَةِ” بالثراء في آيات التنزيل الحكيم؛ حيث نجد “159” موضعا لورود هذا المصطلح، بمختلف مشتقاته.
وسوف نحاول، في هذا المجال، تلمس الدلالات المتعلقة بمفهوم “ٱلشَّهَٰدَةِ”، سواء من جهة الفاعل الذي يصدر عنه هذه “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أي “الشاهد”؛ أو ما يصدر عن “ٱلشَّهَٰدَةِ” نفسها، ومرجعيتها، أي “المشهود له” و/أو “المشهود عليه”؛ إضافة إلى موضوع “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أي “المشهود به”.. وذلك عبر مواضع ورود المصطلح ومشتقاته في آيات التنزيل الحكيم.
ما نود أن نؤكد عليه، بداية، هو اختلاف صيغ “الفعل” في اللسان العربي، ما بين الصيغة التفعيلية والصيغة التقريرية؛ إذ بخلال الصيغة “التقريرية” التي تستتبع فعلًا أو ينتج عنها، فالصيغة “التفعيلية” للفعل، هي تلك التي يُربط من خلالها بين القول والفعل.. كمثال، قول “أعد بـ…”، فإن الوعد ذاته التزام عن طريق الكلمة/اللفظ؛ وكما في “أشهد بـ…” أو “أشهد أن…”، فإن ملفوظ “الشهادة” فعل قضائي واعتراف بواسطة الكلمة/اللفظ، حتى قبل أن يُحدد الناطق ما يُشهد عليه.
بهذه الصيغة التفعيلية، التي يُطلق عليها بعضهم الصيغة “الإنجازية”، مثل “إيميل بنفينيست” عالم اللسانيات الفرنسي (Émile Benveniste)، يرد فعل “شَهِدَ” في القرءان الكريم، في “أربعة” مواضع.. أول هذه المواضع، هو قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ” [الأنعام: 19].
وكما يبدو، من سياق الآية الكريمة، فإن الفاعل القائم بالشهادة يرفض أن يشهد ضد الحقيقة، ألا وهي “وحدانية الله”. وتتضح الصيغة التفاعلية لفعل “شَهِدَ”، عبر الخلاصة التي ينتهي إليها عرض عملية الإثبات بالبرهان؛ بداية من السؤال: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ”؟ مرورًا بالاحتكام إلى الله تبارك وتعالى ليقوم بالحكم بين النبي عليه الصلاة والسلام، وبين مُشركي مكة، الذين يشهدون هم، بوجود آلهة أُخرى مع الله عزَّ وجل؛ وصولا إلى رد النبي بالصيغة التفاعلية “قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ”.. وهو رد يندرج في ما يُملى على النبي بصيغة الأمر، من الذي أوحى القرءان إلى نبيه، الله عزَّ وجل، بصيغة الأمر في الفعل “قُلۡ”.
كيف؟ للحديث بقية.