رؤى

البراء بن مالك.. ربيب رسول الله .. بطل اليمامة شهيد “تستر”

تقصر المعاني عن إدراك كمالات البراء؛ لا غرو وهو ربيب بيت النبوة، شرب من الينابيع الصافية حتى ارتوى، فصار للجمال عنوان وللشجاعة والإقدام علم من أعلام البطولة والفداء.. ولكن المعاني مازالت تضيق عن استيعاب تفرّد البراء.. فما أزهده في الدنيا! وما أغناه عن المناصب! وما أبعده عن التكالب عما يتكالب عليه الناس!

ربما يلخص حديث أخيه أنس هذا، نذرا عن إحدى مآثر الرجل إذ يقول: “لما بُعِثَ أبو موسى على البصرة، كان ممن بعث البراء بن مالك، وكان من ورائه، فكان يقول له: اختر عملا. فقال البراء: ومُعْطِيّ أنت ما سألتك؟ قال: نعم. قال: أما إني لا أسألك إمارة مِصْر (بلد)، ولا جباية خِرَاج؛ ولكن أعطني قوسي وفرسي ورمحي وسيفي؛ وذرني إلى الجهاد في سبيل الله، فبعثه على جيش فكان أول من قتل…”.

لا يرى البراء في دنيا الناس بكل ما حَوَتْ من زخرف ما يشغله عن طلبه الأهم والأغلى، وهو أن ينال الشهادة في سبيل الله.. فلديه من بواعث الاطمئنان على تحقق هدفه ما يجعله لا يعبأ بشيء من أمور الفانية، وهو من ذكره الحبيب بالاسم فيمن لو أقسموا على الله لأبرهم.. وهي منزلة دونها المنازل؛ لا يبلغها إلا من كان له شأو البراء في الإخلاص القائم على وضوح الرؤية وسلامة القلب، والخروج من بواعث الوجل التي يعرفها غيرها.. وها هو يوم اليمامة وقد اشتد الوطيس، يناشده ابن الوليد أن يخطب في الجند يستحثهم على مواصلة الجهاد حتى يأذن الله بنصره؛ فلا يقول إلا جملة واحدة، ضمت من قوة التأثير ما لا تتضمنه الخُطب الطوال، قال: “يأهل المدينة لا مدينة لكم اليوم، وإنما هو الله وحده والجنة”. وهو تذكير فيه من الزجر ما فيه؛ لكنه لا يخلو من الترغيب أيضا.. والكلام موجه لأهل المدينة خاصة رسول الله وأصفياؤه، وهم الأنصار المنصورون بحول الله وقوته.. لكن المجال هنا لا يتسع لفكرتين، فلا يأخذنكم الحنين للدور والأهل، إنما هو الله وحده والجنة، وهي سلعة الله الغالية.. ربح البيع والله يا رجل الله.

ويكفي أن المشهد التالي لهذا المشهد كان طلبه من أصحابه أن يحتملوه على ترس، على أسنَّة رماحهم ويلقوه في “حديقة الموت” التي تحصّن بها مسيلمة وجنوده، فاقتحم إليهم وعليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، فجُرح يومئذٍ بضعة وثمانين جُرحًا.. لِيُقيمَ عليه خالد بن الوليد بنفسه؛  شهرًا كاملا يداوي جراحه.

وإلى جانب آخر من جوانب هذه الشخصية الرائعة.. فقد روي عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان حسن الصوت، وأن النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، كان يحب أن يرتجز له البراء، لشدة جمال صوته.. وروى أخوه أنس بن مالك أنه كان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره؛ فبينما هو يرجز إذ قارب النساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياك والقوارير”. قال: فأمسك. ومعنى ذلك أن الرسول خشي أن يفتن البراء النساء بجمال صوته، فحذره من مواصلة التغني، فتوقف البراء على الفور.

لكن البراء يحب التغني، ولا يني يتغنى بأجمل معاني الحب المُقدس لله ولرسوله، والتغني له بمثابة البلسم الشافي في أوقات التداوي من جراح المعارك، حتى وإن كان ذلك لا يعجب أخاه الحبيب أنس الذي روى أنه دخل على البراء وهو يتغنَّى، فقال له: قد أبدلك الله ما هو خير منه، فقال البراء: “أترهب أن أموت على فراش، لا والله، ما كان الله ليحرمني ذلك، وقد قتلت مئةً منفردًا، سوى من شاركت فيه”.

من خلال فهمه العميق الذي ربما جاوز فهم أنس- لا يرى البراء بأسا في التغني، به يؤنس نفسه ويُطرب روحه التي تتوق للجنان، وهو في حالة اليقين التام أن ذلك لا يمكن أن يحول دون حصوله على الوسام الأكبر، الذي وعده الله من عباده من هم على شاكلة البراء بن مالك.. من نزل فيهم قوله تعالى: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” [المائدة: 54].

ثم إلى مشهد تجاوز في قوته كل ما سبق، بل هو مشهد فريد بين مشاهد البطولة، في المعارك التي دارت ضد الفرس؛ فقد روى الطبراني في المعجم الكبير بإسناد حسن، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، قال: بينما أنس بن مالك وأخوه البراء عند حصن من حصون العدوِّ، والعدوُّ يلقون بكلاليب من سلاسل محماة، فتعلَق بالإنسان، فيرفعونه إليهم، فعلق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك، فرفعوه حتى أقلُّوه من الأرض، فأتي أخوه البراء، فقيل له: أدْرِك أخاك وهو يقاتل الناس، فأقبل حتى نزا في الجدار، ثم قبض بيديه على السلسلة وهي تدار، فما برح يجرهم ويداه تدخنان حتى قطع الحبل، ثم نظر إلى يديه، فإذا عظامه تلوح، قد ذهب ما عليها من اللحم، وأنجا الله عز وجل أنس بن مالك رضي الله عنه”.

هل سمع أحد بقصة كتلك.. يفتح البراء حلقات سلسلة محماة بيديه حتى يذهب لحم يديه؛ إنقاذا لأخيه الحبيب أنس.. إنه أمر لا يُصدّق.. لكن البراء هو بطل الأعاجيب؛ يأتي دائما بما لا يتصوره أحد.

ثم يحين اليوم الأخير في حياة المجاهد البطل؛ في معركة “تستر” عندما التجأ إليها الهرمزان وجنوده، بعد اندحارهم أمام المسلمين في “رام هرمز” لكنه حوصر هناك من جيشي الكوفة والبصرة، واستمر الحصار عدة أشهر تخللتها مواجهات بين الطرفين، وقد حفظ التاريخ للبراء دوره الفعَّال في معركة تُستَر؛ فقد روى ابن كثير مثنيا على شجاعته وبسالته قائلا: “وقتل البراء بن مالك أخو أنس يومها مئة مبارز، سوى من قتل غير، وكذلك فعل كعب بن ثور ومجزأة بن ثور وأبو يمامة وغيرهم من أهل البصرة… حتى إذا كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك وكان مجاب الدعوة: يا براء، أقسمْ على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني” وكذلك كان، نصرَ الله جنده المسلمين، وأكرم عبده المجاهد البراء بمنَّة الشهادة، وما أعظمها من منة!

رضي الله عن البراء بن مالك ربيب الحبيب، المُتغني بلحن الشهادة العذب، الذي لا تطرب له إلا قلوب المحبين المخلصين للمولى جل جلاله.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock