رؤى

تحولات سوريا.. والتمركز الروسي في ليبيا

أدى سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، إلى عرقلة مشاريع روسيا في أفريقيا؛ بل وأرغمها على البحث عن نقطة إسناد بديلة في حوض المتوسط، متطلعة في هذا السياق إلى ليبيا؛ وذلك رغم وجود ميناء عسكري وقاعدة جوية على الساحل السوري.

والواقع، أنه في ظل التحولات الجيوسياسية الكبيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العقد الأخير، أصبح واضحا أن روسيا تسعى لإعادة تشكيل استراتيجياتها الخارجية، بما يتماشى مع تغيّر موازين القوى العالمية.

ومع سقوط النظام الأسدي، تزداد التساؤلات حول الاتجاهات المستقبلية للسياسة الروسية في المنطقة.

أحد السيناريوهات المحتملة هو أن تتوجه روسيا نحو توسيع نفوذها في ليبيا.. لكن ما الدوافع وراء هذا التحرك؟ وما هي التداعيات المحتملة على أوروبا والغرب؟

أولا: الدوافع الاستراتيجية الروسية: ثمة عدد من الدوافع الاستراتيجية، التي تستند إليها روسيا في توجهها نحو التمركز الاستراتيجي في ليبيا.. لعل من أهمها:

– الفراغ الجيوسياسي بعد سقوط الأسد؛ فمنذ تدخلها العسكري في سورية عام 2015، أصبحت روسيا لاعبا رئيسا في الصراع السوري، ودعمت نظام الأسد حتى وصل إلى مرحلة السيطرة على معظم الأراضي السورية. ولكن مع سقوط النظام؛ ستكون روسيا بحاجة إلى موقع جديد يحافظ على تأثيرها في الساحة السورية، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا. ليبيا تُعتبر واحدة من الدول التي قد توفر لهذا النفوذ الروسي الاستمرارية، نظرا لموقعها الاستراتيجي في البحر المتوسط، وكونها بوابة بين أوروبا وإفريقيا.

– السيطرة على موارد الطاقة؛ إذ تمتلك ليبيا واحدا من أكبر احتياطيات النفط في العالم، ما يجعلها هدفا جذّابا للقوى العظمى. ومن ثم.. فإن تحكم روسيا في مصادر الطاقة الليبية، يمكن أن يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي، خاصة في سوق الطاقة الأوروبية. ومن هنا قد ترى روسيا في ليبيا فرصة لتعويض الخسائر المحتملة، التي قد تتعرض لها جراء العقوبات الغربية أو تقلبات أسواق الطاقة العالمية.

-الوصول إلى المتوسط وأوروبا؛ فالتواجد الروسي في سوريا منح موسكو قاعدة بحرية هامة في طرطوس على البحر المتوسط، وهو ما أعطى روسيا قدرة على التأثير في مسار الأمور في المنطقة. إذا ما فقدت روسيا هذه القاعدة بعد سقوط الأسد، فإن الحفاظ على نفوذ بحري في البحر المتوسط يصبح ضرورة استراتيجية. لذا فإن التمركز في ليبيا قد يتيح لروسيا الاحتفاظ بهذه القدرة، مع تحسين وصولها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، ما يعزز نفوذها على أمن الطاقة والسياسة الأوروبية.

ثانيا: الدور الروسي المحتمل: يبدو أن الدور الروسي في ليبيا، سوف يستهدف اكتساب المزيد من النفوذ في الداخل الليبي، وذلك عبر عاملين اثنين.. هما:

– دعم الأطراف العسكرية؛ فمنذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، تعيش ليبيا في حالة من الانقسام السياسي والصراع العسكري بين عدة أطراف؛ وقد تجد روسيا في هذا السياق فرصة لتعزيز نفوذها، عبر تقديم الدعم العسكري واللوجستي لأحد الأطراف المتصارعة؛ خاصة الجيش الوطني الليبي الذي يقوده خليفة حفتر. إذ إن هذا الدعم قد يمكن روسيا من الحصول على نفوذ أكبر في الدولة الليبية.

– الوساطة على المستوى الدبلوماسي؛ كما فعلت في سوريا، قد تلعب روسيا دورا رئيسا في الوساطة بين الأطراف الليبية المتصارعة. وعبر تقديم نفسها كوسيط دولي قادر على حل النزاعات، قد تعزز موسكو من مكانتها كلاعب أساسي في المشهد الليبي. هذا الدور الدبلوماسي قد يمنحها نفوذا على الصعيد الدولي، ويعزز علاقاتها مع دول مثل مصر والإمارات الداعمتين لحفتر.

ثالثا: التداعيات على أوروبا والغرب قطعا هناك تداعيات على أوروبا، من وراء التحرك الروسي تجاه ليبيا، والتمركز الاستراتيجي فيها.. أهمها ما يلي:

– التأثير على أمن الطاقة الأوروبي؛ فمن بين أكبر المخاوف الأوروبية هو قدرة روسيا على استخدام موارد الطاقة الليبية، كورقة ضغط في صراعاتها مع الاتحاد الأوروبي والغرب. إن التمركز الروسي في ليبيا قد يعني سيطرة أكبر على إمدادات النفط والغاز التي تذهب إلى أوروبا. بل ويمكن لموسكو أن تستخدم هذا النفوذ لفرض شروطها أو للحصول على تنازلات سياسية واقتصادية.

– إمكانية تهديد الأمن الأوروبي؛ تعتبر ليبيا نقطة انطلاق رئيسية للمهاجرين الذين يسعون للوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط؛ لذا فإن أي تحرك روسي في ليبيا قد يؤثر على تدفقات المهاجرين، سواء عبر تسهيلها أو عرقلتها. من هنا قد يُنظر إلى التحرك الروسي  بوصفه تهديدا مباشرا لأمن الحدود الأوروبية، وهو ما سيزيد من التوترات بين موسكو والاتحاد الأوروبي. أضف إلى ذلك، أن تحركات روسيا في ليبيا قد تتعارض مع استراتيجيات حلف الناتو في المنطقة، خاصة وأن ليبيا تعتبر منطقة استراتيجية لأوروبا والولايات المتحدة؛ بمعنى أن توسيع النفوذ الروسي هناك قد يضعف تأثير الحلف في شمال إفريقيا، ويزيد من التحديات التي تواجه الناتو في مواجهة التمدد الروسي.

رابعا: احتمالات متوقعة من الغرب: قطعا لن يقف الغرب عموما، والولايات المتحدة بشكل خاص، مكتوف الأيدي تجاه التوجه الروسي نحو التمركز الاستراتيجي في ليبيا؛ إذ سوف تكون هناك تحركات غربية أوروبية أمريكية مضادة.. أهمها:

– زيادة العقوبات الاقتصادية؛ في حال توسع النفوذ الروسي في ليبيا، قد تتجه الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى فرض المزيد من العقوبات على روسيا. هذه العقوبات قد تستهدف الشركات الروسية التي تعمل في قطاع الطاقة الليبي، أو تلك التي تدعم التحركات العسكرية الروسية هناك. الهدف من هذه العقوبات هو تقويض القدرة الروسية على تحقيق أهدافها في ليبيا.

– دعم الأطراف المنافسة لروسيا؛ بالتوازي مع العقوبات، قد تسعى الدول الغربية إلى تقديم دعم أكبر للأطراف الليبية التي تعارض التوسع الروسي، سواء كان هذا الدعم ماديا أو دبلوماسيا. هذا التحرك قد يعزز الانقسام الداخلي في ليبيا، ولكنه قد يكون ضروريا من وجهة نظر الغرب لاحتواء النفوذ الروسي.

في هذا الإطار.. يمكن القول أنه بعد سقوط نظام الأسد في سورية، قد تجد روسيا في ليبيا فرصة استراتيجية لتعزيز نفوذها في البحر المتوسط وشمال إفريقيا. هذا التحرك لن يكون دون تداعيات على أوروبا والغرب، الذين قد يرون في هذا التوسع تهديدا لمصالحهم الأمنية والاقتصادية. التحركات الروسية في ليبيا قد تشكل فصلا جديدا من الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، حيث سيتنافس الطرفان على النفوذ والسيطرة في واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم.. منطقة شمال أفريقيا.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock