بعد رحيل والدي في وقت مبكر جدًا من حياتي، انتقلت من المدينة إلى القرية، جاء الانتقال عكسيًا ونقيضًا لمجرى حياة كنت قد عشتها بالمدينة، ففي القرية كان كتاب الحياة المفتوح على الطبيعة هو المدخل لحياة جديدة، وعالم آخر بعيد عن صخب المدينة.. القرية هي الجذر والتاريخ، هكذا حدثنا الروائي والقاص الكبير فتحي إمبابي، عن الهوية، التاريخ، وجيل السبيعينات، والجديد الذي يقوم عليه، خلال الحوار التالي:
مهندس يعشق اللغة ويتحول لأديب.. كيف تمت تلك التركيبة؟
اختياري لمسار تعليمي، جاء طبقا للاتجاهات العامة في ذلك الوقت، كليات الطب والهندسة كانت محل اهتمام غالب الأسر المصرية ومازالت إلى الآن، اخترت دراسة الهندسة لأنه يسكنني شيء من الاهتمام بالتجريب، فقد سبق اهتمامي بالهندسة أني قررت أن أدرس الطيران والحقيقة لم يتم قبولي لأسباب طبية، أما اهتماماتي بالكتابة فقد سبقت ذلك الاختيار بسنوات.
أيعني هذا أنك بدأت الكتابة في سن مبكرة قبل المرحلة الجامعية؟
في سن الرابعة عشر وقعت يدي على رواية “لمن تقرع الأجراس” لهيمنجواي، وقتها قررت أن أكون كاتبًا في ذلك السن المبكر، فقد فتنت ببطل الرواية الشاب والذي يقرر هجرة أمريكا وهي المكان الحلم لأغلب الناس، قد سبق قراءتي لهيمنجواي العديد من القراءات الأخرى، لكتاب عالميين ومصريين، كنت نهمًا في القراءة، وعندما عدت إلى القاهرة كانت دار الكتب إحدى أبرز الأماكن التي شكلت تاريخي المعرفي.
ولماذا جاء جُل اهتمامك بالكتابة في التاريخ؟
هذا يرجع إلى البيئة والأدوات الثقافية التي تشكلت فيها، فضلا عن ما عايشته وجيلي من صدمات وثورات وانتكاسات وانتصارات، بدأ من فترة الطفولة، مرورًا بمرحلة الادراك والشباب.
“العرس” كانت أولى رواياتك.. حدثنا عن مراحل تكوينها ومدى الصعوبات التي واجهتك حتى طباعتها؟
بعد تخرجي في الجامعة، سافرت للعمل بليبيا، وانقطعت عن العمل لمدة 6 أشهر متفرغًا للكتابة، ثم سافرت إلى العراق للعمل في إحدى مدنها واستكملت ما بدأته، ومنها اتجهت إلى بودابست، وبها أعدت الكتابة مرة أخرى، وبعدها سافرت إلى لندن، وهناك التقيت الناقد والاكاديمي دكتور صبري حافظ، وقدمت له الرواية كي أحصل على رأيه، فسألني “هل لو قلت لك أن كتابتك سيئة هتبطل كتابة؟” كان ردي بلا، رجعت إلى مصر وقدمت الرواية إلى فريدة النقاش فقدمت لي نصائح كثيرة أولها التحريض على القراءة، ومن ثم كانت الرواية بين يدي الناقد إبراهيم فتحي قال جملة مازلت أحتفظ بها وأرددها بفرح، قال “لم أقرأ رواية بمثل هذا الجمال منذ أكثر من عشر سنوات”، جاءت هذه الجملة كصك لدخولي عالم الرواية.
ومتى جاء قرار النشر؟
في نهاية السبعينيات ذهبت إلى العديد من الناشرين فرفضوا النشر لي، والغريب أن مجموعة من الأصدقاء من أعضاء حزب العمال الشيوعي، أخذوا قرار بنشر “العرس”، رغم أن الرواية كانت تحمل نقد للحركة الشيوعية في مصر.
يبدو أن سؤال الهوية تيمة أساسية في كل كتاباتك؟
سؤال الهوية هو القضية الكبرى التي تؤرقني وتشغلني طول الوقت، كنا قبل عام 67 لدينا معرفة واضحة بكينونتنا ودورنا، . ولكن بداية من الهزيمة ووصولا إلى الانتصار، والذي تحول إلي فعل فردي ينسب لشخص الرئيس لا لشعب، بدأ التحول يظهر على السطح بقبول معاهدة السلام ومن ثم اشتباك الناس بشكل سلبي مع الواقع، هذا لا ينفي دور المثقفين ورفضهم، أصبحت الشخصية المصرية تميل أكثر إلى عدم الوضوح، كنت في كتاباتي أبحث عن ماهية ما وصلنا إليه.
أكان هذا محرضًا على الكتابة لـ”نهر من السماء”؟
كتبت “نهر من السماء” تعبيرا عن 6 قرون كان يحكم مصر حينها مجموعة من العبيد، وكان سؤالي كيف تحكم مجموعة من العبيد الفلاح المصري ؟.
غير أن الحكم المملوكي الذي كان مرتكزًا على الدور الديني الذي لعبه المشايخ من المصريين، نجح في تمرير نظام حكم العبيد للأحرار، وما كان من تمرد وانتفاضات للمصريين خلال تلك الفترات ناتج عن آلام البسطاء ولم ينتج عن الاعتزاز والإيمان بالذات، هذا على عكس مناطق البداوة القائمة على القبلية القائمة على الدم، حتى السيرة الشعبية أبطالها هم في الأساس خصوم للمصريين، ورغم ذلك يعتنقوه ويصبحوا أبطال تلك السير هم أبطالهم.
وماذا عن كتاب “شرائع دول البحر المتوسط” وتصنيفه بالتاريخي؟
“شرائع دول البحر المتوسط” لم يكن يوما كتابًا في التاريخ، هو كتاب معني بعدة قضايا أولها قضية الهوية وثانيها قانونية ودستورية، معني بمسح شامل للقوانين والدساتير التي سادت في تلك المنطقة وتأثيرها على الشعوب، أقصد أن ما عملت عليه هو بمثابة دراسة موسعة في الأنثربولوجي والسياسة وميثيولوجية للشعوب، توصلت فيها إلى أن هناك منبعين لثقافة شعوب المنطقة منبع أفكارغيبي يميل إلى القداسة وهذا خاص بمنطقة الشرق “المصريين والشوام”، ومنبع أخر مادي مشغول بالإنسان رغم وجود الدين، إلا أنهم بنو حياتهم عبر المجالس النيابية، هذا على عكس المصريين، شرائع دول البحر المتوسط هو الأول في الاتجاه ولم يسبقني أحد في دراسة هذه المنطقة.
أهو محاولة أخرى للإجابة عن سؤال الهوية؟
نعم في هذا الكتاب إجابة عن معنى الهوية عند المصريين، وسرد لمعالم الحياة عندهم بدءًا من الدستور الروماني الذي أرسى الحياة الدستورية عند المصريين، وأرسى دعائم الترتيب العرقي، على رأس هذا الترتيب المواطن الروماني ويليه العبيد المعتوقين وآخرهم الفلاح المصري، جاء الفصل العنصري من هنا، وحرم المصريين من امتلاك أراضيهم.
وهذا الدستور نفسه هو من حكمت به بيزنطة وهو ذاته الذي حكمت به الخلافة الإسلامية والعثمانية من بعدها، حتى جاءت اللائحة السعيدية وأعطت المصريين حق الملكية وحق الحيازة، وهذا ما أكده كتاب “فلاحو الباشا.. الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1740 الى 1858” لكينيث كونو وترجمة سحر توفيق، مراجعة عاصم الدسوقي.
أترى أنه ينعكس على الواقع المصري؟
الكتاب يحمل تصورا حقيقيًا لأسباب واقع المصريين على مدى تاريخهم، والحديث عن دور الجماعة المصرية وحرمانها من حقوقها، فقد تم حرمان المصريين في كل العصور التي حكمت من قبل الاستعمار من دخول الجيش وحرمانها من امتلاك أراضيها، وظل المصريون تحت وقع هذا الظلم يعيشون حياة شبيهة تماما بالعبودية.
لذلك ساندت ودافعت بشدة عن الحرية التي جاءت بها 25 يناير؟
جاءت 25 يناير لتكون أول ثورة في تاريخنا تتبنى قضية ومعنى الحرية، الحرية لدى المصريين في فترات ما يسمى الاستعمار، كانت لا تعني سوى الاستقلال، ما بعد الاستقلال أصبحت تسود ثقافة القطيع، الإيمان بعبد الناصر، فقد تلاقت أحلامه مع أحلام وطموحات المصريين، والتحول مع السادات والإيمان بالذات للخروج من الأزمة، ومن ثم جاء مبارك لتسود ممارسات وحشية من الأمن تجاه الناس في الشوارع فجاء خروج الناس للتعبير عن حقهم في الحرية والمطالبة بها.
جاءت فكرة الانعتاق الذاتي بدءا من لحظة الانفجار الشعبي للمطالبة بالحرية، كل من يري في 25 يناير معلم من معالم الثورات الكبيرة في بناء المجتمعات التي تبحث عن الحرية بدءا من إقامة دستور وبرلمان وصولا إلى منظومة حكم بإرادة المصريين.
هل يواجه ما تنجزه في مجال الرواية أو الكتابة فيما يخص التاريخ بالخرس النقدي؟
مؤكد وأتفهم هذا بشكل ما، فالناقد العربي يكتب غالبا بناءً على طلب من الصحف، وأعرف من حق كل ناقد أن ترى كتاباته النور، وأغلب ما كتب عن منجزي الإبداعي هو مجرد قشور عن تجربتي، غير أن أغلب نصوصي لم تتم طباعتها مرة ثانية.
ترى أن هناك شللية تحكم المشهد الثقافي؟
في التسعينيات والثمانينات كان مشهد الشللية واضح، في ظني الآن لا توجد شللية.
هل جيل السبعينات في الرواية العربية تم ظلمه على حساب جيل شعراء السبعينيات؟
لاشك أن شعراء السبعينيات لديهم مشروعهم، الذي بدأ في تكوين جماعات شعرية، على عكس الرواية فهي إنتاج فردي، وإنتاج رواية يأخذ وقتا طويلا، في السبعينات كانت إضاءة وأصوات خطفوا أغلب الضوء، وهذا بالطبع لم يكن موجه ضد روائيي السبعينيات، ولكن ما كان موجه ضد الجيل كله هو جيل الستينيات بالإضافة إلى العنف السياسي تجاهنا كجيل، جيل الستينيات أخذ موقعه داخل السلطة الثقافية فلعب دور القطيعة عنا.
“الجوائز”.. وقعها وأثرها على الكاتب فتحي أمبابي؟
الجائزة أهميتها ودورها أنها تشير للقارئ على نص وكاتب، الآن غير منشغل بالجوائز ودوري يبدأ وينتهي بالكتابة، ولا أخفيك سرًا رفضت ترشيح إحدى الأكاديميات لجائزة التفوق، وأعتقد أن حال الجوائز في مصر مشهد يميل إلى العبث.
ماذا عن جديدك؟
انتهيت من مجموعة قصصية عنوانها «الرجال الطبيعيون»، وأوشك على الانتهاء من مجموعة قصصية أخرى، وأشتغل حاليًا على كتابة رواية قصيرة، أتمنى الانتهاء منها قريبًا، لأبدأ في إعادة كتابة الجزء الثاني من رواية «عتبات الجنة» وعنوانه «منازل الروح».