رؤى

الحوار القرءاني.. حوار الابن مع نوح عليه السلام

الحوار في القرآن الكريم، هو وسيلة هامة لإدراك المفاهيم والقيم الإسلامية. وقد استخدم القرءان الكريم الحوار في العديد من القصص والأحداث لتوضيح القيم الدينية والإنسانية، التي من الواجب على الإنسان اتباعها والاهتداء بها. ضمن أهم هذه القيم الإنسانية، تأتي العقلانية كمبدأ قرءاني في الحوار.

ومن الأمثلة التي وردت في التنزيل الحكيم للدلالة على مبدأ العقلانية هذه، يأتي الحوار الإلهي مع نبي الله نوح عليه السلام. وفي ذلك يأتي قول الله سبحانه وتعالى: “وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٭ قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 45-46].

في هذا الحوار، بين المولى سبحانه وتعالى ونوح عليه السلام، الذي يُطلق عليه “حوار الاستجارة”، لنا أن نُلاحظ أن نوح كان يملك المُبرر طلبا لنجاة ابنه من الغرق، لأنه من أهله كما كان يعتقد نوح “إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي”. إلا أن الله تبارك وتعالى حاور نوح، ليُبين له الحق والصواب “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، ومؤكدًا سبحانه الحيثية في عدم استجابة نداء نبيه عليه السلام “إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”.

وإذا كنا قد تناولنا من قبل الحوار الإلهي مع نبي الله نوح.. فإننا سوف نحاول هنا، تناول الحوار بين نوح عليه السلام وابنه، وهو الحوار الذي أظهره القرءان الكريم، وأوضح من خلاله القيم الدينية والإنسانية، ومن أهمها “مبدأ العقلانية”.

مشهد الحوار

تُعد قصة النبي نوح عليه السلام من أعظم القصص القرآنية التي تتناول مسألة الدعوة إلى الله والصراع مع الكفر والعناد. ومن أكثر المشاهد المؤثرة في هذه القصة هو حواره مع ابنه، الذي رفض الإيمان بالله رغم الدعوات المتكررة من أبيه. هذا الحوار الذي دار بين نوح وابنه يعكس عدة دلالات تربوية وعاطفية ودينية عميقة، تتناول مفهوم الرحمة، الإرادة الحرة، وطبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء في إطار الدعوة إلى الله عزَّ وجل.

ويُصور لنا التنزيل الحكيم المشهد الدراماتيكي العظيم، للحوار بين نوح وابنه، وذلك في قوله سبحانه: “وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٭ قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ” [هود: 42-43]. هنا، لنا أن نُلاحظ “النداء” في التعبير القرءاني “يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ”؛ فهذا النداء يكشف عن عمق العلاقة العاطفية بين الأب وابنه، من جهة الأب وليس من جهة الابن.. حيث يحاول نوح جاهدًا أن ينقذ ابنه من الهلاك، حتى في اللحظات الأخيرة من الطوفان.

واللافت، أن رد الابن على دعوة أبيه إنما يُعبر عن سوء الفهم، والاعتماد على الحماية المادية بدلا من الإيمان بالله، والامتثال العقلاني لنصيحة الأب؛ وهو ما يتبدى بوضوح في قوله تعالى: “قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ”. هنا، يتجلى عدم إدراك ابن نوح لحقيقة أن العذاب القادم هو “أمر إلهي” لا يمكن الهروب منه باللجوء إلى الأسباب المادية كالجبل. هذه اللحظة تعكس حالة من التعلق بالدنيا والاعتماد على الظاهر المادي دون التوجه إلى الله.

ابن نوح إذن، كان يمثل حالة من الإنكار المتأصل، فبالرغم من كل الأدلة والبراهين التي رأى منها دعوة أبيه طوال سنوات، وبالرغم من رؤية علامات الطوفان نفسها، إلا أنه استمر في عناده وإنكاره. إلا أن الأهم هو رد نوح عليه السلام على ابنه، الرد الذي ورد بنبرة حزينة وصارمة في الوقت نفسه: “لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ”. هذه العبارة القرءانية تحمل في طياتها الدلالة القوية على أن لا شيء في الدنيا يمكن أن يحمي الإنسان من أمر الله في حال وروده. الجبال العالية، القوة المادية، أو أي شيء آخر لا يمكن أن ينقذ من “العذاب” إذا لم يكن الإنسان تحت رحمة الله.

دلالات الحوار

ضمن أهم دلالات الحوار بين نبي الله نوح وبين ابنه، يأتي الوصف القرءاني لأحد أكثر المشاهد تأثيرا في هذا الحوار؛ نعني قوله عزَّ وجل: “وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ”.. هذه اللحظة، تمثل الفراق النهائي بين نوح وابنه، حيث تحوّل الحوار إلى مأساة عندما غمرت الأمواج ابنه، ليغرق مع بقية الكافرين. هذه النهاية، تُظهِر لنا أن الرحمة الربانية لا تشمل إلا من استجاب لدعوة الإيمان، وأن القرابة العائلية لا تحمي من غضب الله إذا استمر الإنسان في عناده وكفره.

ولعل أهم الدروس المستفادة من هذا المشهد الحواري بين نوح النبي وابنه، أنه رغم الدعوة المستمرة من النبي نوح عليه السلام، إلا أن ابنه قرر في النهاية رفض الإيمان، واتخاذ موقف مستقل نابع من إرادته الخاصة. وهذا، يُبرز مفهوم “حرية الاختيار في الدين”، كما جاء في قوله سبحانه: “لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة: 256]. بل، وتتأكد حرية الاختيار بين الإيمان والكُفر، كما ورد في قوله تعالى: “وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا” [الكهف: 29]. ولنا أن نُلاحظ، هنا، أن “نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ” قد أعدها الله تبارك وتعالى “لِلظَّٰلِمِينَ”.

عمل غير صالح

وهنا أيضا، نود التأكيد على ما ذكرناه من قبل، في حديث سابق، من أن الله تبارك وتعالى حاور نوح، ليُبين له الحق والصواب في مسألة ابنه، مُشيرا -عزَّ وجل- لنبيه نوح: “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، ومؤكدًا عزَّ من قائل الحيثية في عدم استجابة نداء نبيه عليه السلام “إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”.

وهنا كذلك، نود التأكيد على اختلافنا مع ما يطرحه البعض من المُفسرين، حول التعبير القرءاني “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، ومنهم الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله، بأن هذا التعبير يدل على “عمل ابن نوح”، أي إن “عمل ابن نوح عمل غير صالح”، وذلك اعتمادا على تخريجة مفادها “إن بنوة الأنبياء ليست الدم، وإنما العمل والاتباع”، ولأن عمل ابن نوح غير صالح فهو ليس من أهله.

وفي نظرنا، فإن مثل هذا القول ليس عندنا بشيء..

إذ، لنا أن نُلاحظ الحرف “إِنَّهُۥ” الذي ورد مرتين متتاليتين؛ الأولى “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، والثانية “إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”؛ وهما جملتان متتاليتان منفصلتان، ليس بينهما أي من حروف العطف، للدلالة على أهمية التأكيد على “عدم صلاحية الابن” ليكون من أهل نوح عليه السلام، وليس على “عدم صلاحية عمله”. ولنا، دليلا وتأكيدا على ذلك، أن نتأمل قوله عزَّ من قائل: “ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ” [التحريم: 10]؛ إذ، عبر تأمل هذه الآية الكريمة، وتدبر ألفاظها، يمكن تصور ماهي دلالة المصطلح القرءاني “فَخَانَتَاهُمَا”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock