رؤى

فرصة الصين الاستراتيجية.. تجاه أوروبا

مع عودة دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية، بدأت التوترات من جديد بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ ومع هذه التوترات، ظهرت التحديات الخاصة باستقرار العلاقات بين جانبي الأطلسي. بعض هذه التحديات التي تُحدد ملامح العلاقة الأوروبية مع إدارة ترامب مُكررة منذ ولايته الأولى، وبعضها الآخر مُستجد. لكن -كما يبدو- جميعها يشترك في أن لها علاقة ما بالروابط التي تجمع أوروبا مع الصين.

ومن ثم، فإن الصين قد تكون أمام توافر الإمكانية لاستغلال الفجوة والتوترات في العلاقات الأمريكية الأوروبية، لأجل التقارب مع أوروبا، سعيا لإحباط سياسات واشنطن لاحتوائها، ولتعويض الخسائر التجارية مع الولايات المتحدة في الوقت نفسه.

فهل يمثل هذا “فرصة استراتيجية” للصين لتعزيز نفوذها في أوروبا، وما هي تداعيات هذا التقارب المحتمل على الساحة الدولية؟

أمريكا وأوروبا

طوال فترة حكمه أثناء ولايته الأولى، ومنذ توليه الرئاسة للمرة الثانية، تتسم سياسات ترامب الخارجية تجاه أوروبا بالعدائية والتوتر. فقد انتقد الرئيس الأمريكي الاتحاد الأوروبي مرارا وتكرارا، واصفا إياه بأنه منظمة تجارية تسعى إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، انتقد ترامب الحلفاء الأوروبيين بسبب ما وصفه بعدم إنفاقهم الكافي على الدفاع ضمن حلف الناتو، وهدد مرارا بتقليص الالتزامات الأمريكية تجاه الحلف إذا لم تلتزم الدول الأوروبية بمستويات الإنفاق الدفاعي المتفق عليها.

كما شملت السياسات العدائية فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية، مما أثار توترات تجارية بين الجانبين. وقد أسفرت هذه السياسات عن تزايد مشاعر انعدام الثقة بين الولايات المتحدة وأوروبا، ودفع الكثيرين في أوروبا إلى التفكير في تقليل اعتمادهم الاستراتيجي على الولايات المتحدة، والبحث عن بدائل أخرى للتعاون الدولي.

الصين وأوروبا

في الوقت الذي تزداد فيه التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا، يمكن للصين أن ترى في هذا الوضع فرصة لتعزيز علاقاتها مع القارة الأوروبية. فالصين، التي تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تعمل منذ سنوات على توسيع نفوذها الدولي من خلال مبادرات مثل “مبادرة الحزام والطريق”، التي تهدف إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين الصين ودول مختلفة حول العالم، بما في ذلك أوروبا.

بالنسبة للصين، يُمثل التقارب مع أوروبا فرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي، في وقت تشهد فيه العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة تراجعا. فالاقتصاد الأوروبي يمثل سوقا ضخما ومُهمًّا للصادرات الصينية، كما أن التعاون مع أوروبا يمكن أن يُعزز مكانة الصين كقوة عالمية قادرة على المنافسة مع الولايات المتحدة في المجالات الاقتصادية والسياسية.

يكفي أن نُلاحظ أن العلاقات الاقتصادية بين الصين وأوروبا قوية ومبنية على مصالح مشتركة. الصين هي واحدة من أكبر شركاء الاتحاد الأوروبي التجاريين، ويبلغ حجم التجارة بين الجانبين مليارات الدولارات سنويًا. وقد استفادت العديد من الشركات الأوروبية من السوق الصينية المتنامية، بينما تعتمد الصين على أوروبا كواحدة من أكبر أسواقها للصادرات.

وفي ظل التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا، يمكن للصين أن تسعى إلى تعزيز هذه العلاقات الاقتصادية، من خلال توقيع المزيد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية مع الاتحاد الأوروبي. فقد أظهرت الصين رغبتها في تعزيز التعاون مع أوروبا من خلال مشاريع استثمارية كبيرة، في مجالات مثل البنية التحتية والتكنولوجيا. كما أن الصين قد تقدم نفسها كبديل استراتيجي لأوروبا، في مجالات مثل التكنولوجيا والطاقة، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وأوروبا حول هذه الملفات.

تداعيات استراتيجية

ومع ذلك، فإن هناك تحديات كبيرة تواجه التقارب بين الصين وأوروبا. فعلى الرغم من المصالح الاقتصادية المشتركة، إلا أن هناك قلقا متزايدا في أوروبا بشأن النفوذ السياسي للصين، وتأثيرها على المؤسسات الأوروبية. كما أن هناك مخاوف بشأن ممارسات الصين التجارية، بما في ذلك انتهاكات حقوق الملكية الفكرية واتهامات بسرقة التكنولوجيا. لذلك، على الرغم من أن التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا قد تدفع الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين، إلا أن هذا التعاون لن يكون بدون تحفظات.

وبالتالي، إذا تمكنت الصين من تعزيز علاقاتها مع أوروبا، في ظل تراجع النفوذ الأمريكي، فإن هذا سيؤدي إلى تغييرات استراتيجية كبيرة على الساحة الدولية. من الناحية الاقتصادية، يمكن أن يصبح الاتحاد الأوروبي والصين شريكين أكثر قوة في النظام التجاري العالمي، ما يعزز من قدرة الصين على تحدي الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.

علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي التقارب بين الصين وأوروبا إلى تغيير في التوازنات السياسية العالمية. فالصين تسعى منذ فترة إلى بناء تحالفات دولية جديدة، لتعزيز دورها كقوة عظمى على الساحة الدولية. ومن ثم، إذا تمكنت الصين من بناء علاقات أقوى مع أوروبا، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف التحالفات التقليدية بين الولايات المتحدة وأوروبا، مما سيؤثر على قدرة الغرب على مواجهة التحديات الجيوسياسية المشتركة.

على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تقارب الصين وأوروبا إلى تغيير مواقف الاتحاد الأوروبي في قضايا دولية مثل تغير المناخ، التجارة العالمية، والأمن السيبراني. كما قد يؤثر ذلك على التعاون الدفاعي والأمني بين الولايات المتحدة وأوروبا، مما يضعف حلف الناتو ويخلق فرصا جديدة للتدخل الصيني في القضايا الأمنية الأوروبية.

مخاطر محتملة

على الرغم من الفوائد المحتملة للتقارب بين الصين وأوروبا، إلا أن هناك مخاطر يجب أن تؤخذ في الاعتبار..

أولا، قد يؤدي هذا التقارب إلى تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا، ما قد يؤثر على استقرار التحالفات الغربية. إذا شعرت الولايات المتحدة بأن أوروبا تبتعد عنها وتتقرب من الصين، فقد تتخذ واشنطن إجراءات انتقامية، بما في ذلك فرض مزيد من العقوبات التجارية، أو تقليص الدعم العسكري والأمني لحلفاء الناتو الأوروبيين.

ثانيا، قد يؤدي التقارب بين الصين وأوروبا إلى زيادة النفوذ الصيني في المؤسسات الأوروبية. هناك مخاوف متزايدة في بعض الأوساط الأوروبية، من أن الصين قد تستخدم نفوذها الاقتصادي لتعزيز أجندتها السياسية في أوروبا، بما في ذلك التأثير على القرارات السياسية والاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي.

ثالثا، يمكن أن يؤدي التعاون التكنولوجي، بين الصين وأوروبا، إلى تحديات جديدة في مجال الأمن السيبراني وحماية البيانات. الصين تعتبر واحدة من القوى الرائدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس. لكن هذا التقدم التكنولوجي يثير مخاوف في أوروبا بشأن الخصوصية وحماية البيانات، خاصة مع الاتهامات الموجهة للصين باستخدام التكنولوجيا لأغراض تجسس.

في هذا الإطار..

يمكن القول بأنه إذا تحقق التقارب بين الصين وأوروبا، فإن ذلك سيؤدي إلى تحولات كبيرة في النظام الدولي. الصين قد تتمكن من تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم، مما سيؤثر على قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على هيمنتها الدولية. كما قد يؤدي هذا التقارب إلى تغيير في طبيعة التحالفات الدولية، حيث قد تضطر أوروبا إلى إعادة تقييم دورها في النظام العالمي، وتبني سياسات أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.

في نهاية المطاف، سيعتمد مستقبل العلاقات الصينية الأوروبية على كيفية تعامل الجانبين مع التحديات المشتركة، وقدرتهما على تحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والسياسية في ظل تزايد التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock