تبدو علاقة عدد لا يستهان به من شباب القراء، فى أنحاء متفرقة من العالم العربى، بتراثهم الأدبى القديم «غائمة» و«ضبابية» بل «معدومة» إلى حد كبير. ورغم احتواء هذا التراث على كنوز حقيقية ومصادر وافرة الثراء والغنى، مادة وأدبًا ولغة، فإن مع غياب ما يسميه البعض «المتوسطات القرائية» أو «كتب الصياغات العصرية» التى تعرّف بهذه الكتب، وتمهد الطريق لقراءتها والتعرف عليها ـ تجعل الفجوة دائمًا مرشحة للاتساع.
ربما، ولهذا السبب، تفرض بعضُ التجاربِ المعاصرة لكتاباتِ «معاصرين» نفسَها، وتستدعى حضورَها بعدما تناولت هذه المحاولاتُ بعضَ الكتب التراثية فعملت على تهذيبها أو اختصارها أو الاشتغال على مادتها استيحاءً أو استلهامًا، فتعيد صياغتها بلغة عصرية أو تستخرج منها قصصًا وحكايات مدهشة، متجددة، صالحة للقراءة والمتعة فتقدمها فى ثوب جديد شائق.
لدينا ــ مثلًا ــ «تهذيب الحيوان» لعبدالسلام هارون، و«المختار من العقد الفريد»، و«المنتخب فى أدب العرب» (وهو كنز حقيقى رائع)، و«التوجيه الأدبى». ولدينا فى هذا الإطار تجربتان مهمتان جدًا، عكفتا على الكتاب التراثى الأشهر «الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى، وقدمتا كتابين من أجمل وأبدع الكتب الموازية «متنًا على متن» لهذا المنجم الأدبى، فكانا من أحسن العتبات والمداخل لتيسير مطالعة الكتاب الفريد، وتوجيه القراء إلى ما فيه من جمال، أو على الأقل سيخرج قراء الكتابين بمتعة لا تنفد ومعرفة واسعة وعميقة «بالأغانى»، وما يحتويه من تراثٍ سردى وحكائى زاخر.
وأما كتاب «الأغانى» الذى كتبه أبو الفرج الأصفهانى (توفى 286 هـ) فهو موسوعة أدبية ثقافية مذهلة؛ ومصدر وافر الثراء عن حياة العرب، وأحوالهم وتفاصيل معيشتهم؛ أهواؤهم ونزواتهم، حربهم وسلمهم، عن حياتهم الخاصة فى العشق والهوى. بالجملة كان «الأغانى» للأصفهانى هو الكتاب الذى يمثل مرآة ناصعة وصادقة عن الحياة العربية بكل ما تعنيه العبارة حتى منتصف القرن الثالث الهجرى تقريبًا.
وكان لثقافة الأصفهانى الموسوعية الشاملة أثر كبير جدًا فى ثراء المادة التى جمعها وقدمها فى كتابه؛ فشملت الأدب، والنقد، والموسيقى، والغناء، والتاريخ، والأيام، والأنساب، والقصص، والسير، والحكايات، والأمثال.. إلخ، وكان لكل فن من هذه الفنون نصيب وافر فى «الأغانى»، كما فى كتبه الأخرى.
هذا عن «الأغانى» الذى كان يتوفر على قراءته وبحثه صفوة الصفوة من دارسى الأدب العربى أو المحيطين بذخائر التراث القديم. فماذا عن المحاولات المعاصرة التى أعادت تقديم مادة «الأغانى» فى صياغات تناسب العصر وأذواق المتأدبين من الناشئة فى زمننا هذا؟
لا بد لى، أولا، أن أعترف بأن عبورى بوابة التراث العربى جاء من الافتتان بقراءة أجزاء ضخمة من هذا الكتاب، وقراءة ما كتب عنه أيضًا، ولحسن الحظ فإننى تعرفت عليه فى سن باكرة للغاية، وبدأتُ رحلة مطالعته واقتناء أجزاء متفرقة منه قبل دخولى الجامعة (ثم الحصول على نسخة كاملة، وأنا فى الجامعة)، ومن بين محاولاتٍ وكتابات ليست قليلة تغيت هدف التعريف بالأغانى ومحتواه وقيمته، فإن كتابين رائعين توفرا على مادة الموسوعة الباذخة استلهامًا وعرضًا؛ وبقيا فى روحى وذهنى لا يفارقانى؛ كتابان لهما فى نفسى مكانة عزيزة جدا؛ أولهما كتاب «شخصيات حية من الأغانى» لمحمد المنسى قنديل، والثانى «حكايات من أغانى الأصفهانى ـ يوميات المغنين والجوارى» للكاتب الصحفى الراحل كمال النجمى.
ولنبدأ بأقدمهما صدورًا؛ كتاب المرحوم النجمى، الذى صدر عن دار الهلال، فى جزئين بغلاف مبهج للفنان محمد أبو طالب، ولم يكن النجمى يتوقع حجم النجاح الكبير الذى حققه الجزء الأول لدى صدوره، ليعقبه الجزء الثانى، يقول النجمى فى مقدمته «وإننا لنرجو بهذا الجزء الثانى من كتابنا أن نسهم فى توثيق الصداقة التى حاولنا أن نعقدها بجزئه الأول بين القارئ العربى العصرى وبين كتاب الأغانى العظيم الذى قرأته الأمة العربية جيلا بعد جيل».
رحم الله كمال النجمى الذى كان من أصحاب الأساليب الجميلة، وكان واحدًا من المثقفين الكبار الذين لعبوا الدور الذى نفتقده الآن بضراوة؛ دور المثقف «الوسيط»، المثقف الذى يبتغى مخاطبة المقبلين على القراءة والمعرفة، ويأخذ بأيديهم إلى أول الطريق..
نقلا عن موقع الشروق