رؤى

محمد عبده والحركات الإصلاحية (1)

منذ فترة وأنا أقرأ عن الإمام المجدد المصلح الشيخ محمد عبده، ودفعتني مطالعته إلى التوسع في حال الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، وتاريخ الذين حاولوا أن تكون قضية التجديد في مناهج التفكير خاصة في الأزهر الشريف باعتباره الجامعة الأقدم ومركز التعليم والعلم لا ينافسه في ذلك مركز آخر قبل ظهور التعليم الحديث  وبعثاته مع مجيء محمد علي إلى السلطة مطلع القرن التاسع عشر.

رغم تحفظنا علي القول بأن حملة بونابرت 1798-1803 على مصر هي التي أيقظت رقاد عالمنا الإسلامي الذي ظن أنه لكونه مسلما سوف يكتب الله له النصر، ولأنه من رعية السلطان الخليفة فإنه محمي بحماه، فإن الحملة كشفت عن عمق التخلف الذي كان يعيشه ذلك العالم على المستوى الحضاري والفكري، صحيح كانت هناك أصوات تدعو للاجتهاد والتعلم والأخذ بأسباب العلوم الحديثة والتجديد في علوم الدين واللغة وتطوير المؤسسات الدينية ومنها الأزهر لكنها لم تكن مسموعة بشكل كاف، وكانت قوى الجمود والتقليد صوتها أعلى، نذكر من بين الأسماء المهمة التي اعتنت بالتجديد الشيخ حسن الجبرتي (1110ه-1188ه )- والد المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، صاحب كتاب “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” ،  والذي كان عالما بعلوم الهندسة والفلك والجغرافيا والكيمياء والرياضيات، وكان يأتيه طلبة أوروبا للتعلم علي يديه ونقل معارفه إلى بلادهم.

نابليون في مصر

كان هناك الشيخ حسن العطار (1766-1835م) وقد وصل لمنصب مشيخة الأزهر وعاصر الحملة الفرنسية وهرب منها ثم عاد مع مجيء محمد علي للسلطة، وأشار عليه بضرورة الابتعاث للخارج لتعلم علوم الغرب، وهو من رشح رفاعة الطهطاوي ( 1801-1873م ) ليكون إماما لبعثات المصريين في الخارج، وكان رفاعة صوتا للتجديد والإصلاح وتعلم العلوم الحديثة والعصرية وله كتاب “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية”.

الشيخ حسن العطار

كنت كلما قرأت أكثر عن الإمام محمد عبده وجدتني لا أستطيع الإمساك بزاوية محددة لكي أكتب عنها، أقول في نفسي: محاوراته مع هانوتو الوزير الفرنسي المستشرق الحامل لروح العداء تجاه الإسلام تكشف لنا كيف كان الجدال في هذه المرحلة مع الغرب مطلع القرن العشرين.. ثم أقول: مدى تأثير حركة الإمام الإصلاحية على حركات الإصلاح التي جاءت من بعده وقاومت الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي كحركة “بن باديس” وجمعية العلماء في الجزائر، وحركة علال الفاسي في المغرب، وحركة السنوسي في ليبيا، وتيار الإصلاح في تركيا الذي غادرها بعد إعلان العلمانية قبل أن يظهر مجددا في مصر.

جابرييل هانوتو

كان يلازمني كتاب العقاد عن الرجل بعنوان “عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده”، فأخذت أقرأه من آخره فوجدت إجابة لحيرتي حول أي مسلك أو زاوية أتناوله منها، فآخر فصل في الكتاب بعنوان “شخصية ولا شخصية” وفيه يقول العقاد ” كلما توسعنا في معرفتنا به ومعرفتنا ببواعث أعماله، كأننا نحس بعد التوسع في المعرفة بشخصيته أنها شخصية ولا شخصية”.

فهو في مطلع حياته كان صوفيا يكاد يعتزل الناس، ثم اقترب منهم رويدا، وهو في مطلع حياته زهد التعليم في الكتاب وفي المسجد الأحمدي بطنطا لرداءة طرق التعليم وعدم صبره علي مسايرتها.. وهو صغير كان ثوريا متمردا، لكنه لم يكن عرابيا في البداية، حتى إذا وقعت واقعة الاحتلال البريطاني للبلاد انضم للعرابيين دفعا لما اعتبره خطرا على وطنه حذر العرابيين منه.. وهو في مطلع حياته انخرط في السياسة وفي مشاريع جمال الدين الأفغاني لإيقاظ العالم الإسلامي وبناء وحدة سياسية في مواجهة حكامه الذين لا يقومون بما يجب عليهم تجاه أوطانهم وشعوبهم، ولكنه جافى الرجل واختلفت مناهجهم فيما بعد، وانتقل من الإيمان بالعمل السياسي على طريقة الأفغاني إلى العمل التربوي والفكري والإصلاحي الواقعي العملي، وقال: “أعوذ من السياسة، من لفظها ومعناها وحروفها، ومن كل أرض تذكر فيها، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل فيها، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس”.

الإمام محمد عبدة في شيخوخته

نحن أمام مصلح إمام خاض معارك الإصلاح في الأزهر وفي الحركة الوطنية وفي مواجهة الحكام المستبدين وفي مواجهة المستعمرين وهو في كل هذا إنسان يتطور ويتفاعل في كل مرحلة من مراحل حياته وفق ما يعتقد أنه صحيح ونافع لأمته ووطنه.

توفي الإمام محمد عبده عام 1905وقد ترك منصبه من مجلس إدارة الأزهر عام 1904 بسبب تآمر أهل الجمود والحفاظ على الوضع القائم عليه مع سلطة سياسية لا تريد أن تطلق يد المصلحين لتحرير المؤسسات الدينية من قبضتها المستبدة.. خرج الشعب المصري كله خلف جنازة الإمام الذي دُفن في مقبرة بالقاهرة إلي جوار دار الإفتاء التي تولي رئاستها، وهو ما أوغر صدر الخديوي عباس حلمي الثاني وجعله يكتب لأحمد شفيق باشا أحد أتباعه: “إنكم أردتم بالسير خلف نعشه المجاملة بعد الموت، فيرد عليه: “الجنازة حارة والميت كلب”.. هكذا كان الإمام عند السلطة المستبده، ولكنه كان حبيبا للناس، وسطي المذهب والسيرة والاعتقاد، وظلت رسالته الإصلاحية تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock