ثقافة

المصريون.. والتعليم و”سنينه”

يشغل التعليم حيزا كبيرا من اهتمام المصريين.. فمازالت أغلبية الشعب المصري ترى في التعليم الفرصة السانحة للترقي الاجتماعي، وتوفير العمل المناسب، والحياة الكريمة.. يتمسك المصريون بهذاالوهمحسب تعبير د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة الأسبق رغم التحولات الكبرى التي بدأت منذ السبعينات، وأسهمت بقدر كبير في الحط من شأن التعليم المصري ومخرجاته؛ بسيادة قوانين وسياسات الانفتاح الاستهلاكي التي رفعت الطبقة الطفيلية إلى قمة المجتمع.. وإذا جاز لنا أن نطلق لفظ الشغف على علاقة المصريين بالتعليم؛ سنقول أن هذا الشغف قصير العمر نسبيا إذ يرجع لأكثر من قرنين بقليل من عمر الزمن.

لم يعرف المصريون حتى بدايات القرن الثامن عشر التعليم النظامي؛ فلقد كان أمر التعليم شأنا خاصا بالأسر والعائلات تدبره لأبنائها؛ حسب إمكاناتها وظروف معيشتها والحرف والصنائع والمهن التي تتكسب منها، كما كان التعليم آنذاك مرتبطا ارتباطا وثيقا بالدين.. يذهب الصبي إلى الكتَّاب لبعض الوقت، لحفظ شيء من آي الذكر الحكيم،ويتعلم بقدر ضئيل مبادئ القراءة والكتابة، دون إحراز تقدم حقيقي في الغالب بالإضافة إلى تعليمه الوضوء والصلاة، وتلقينه بعض الآداب والأخلاق الإسلامية المستقاة من كتب السنة.. كان هذا حال عامة المصريين من الفقراء والبسطاء ورقيقي الحال.. أما الطبقات الأعلى، فكان اهتمامها بالتعليم أكبر بطبيعة الحال لذلك استقدموا المشايخ إلى الدور والبيوت؛ لتعليم الأبناء.. القراءة والكتابة والخط، أما مبادئ الحساب ومعرفة الأوزان والأقيسة، فكان يلزمها أن يُدْفَعَ بالصبيان إلى الأسواق؛ ليتعلموا ذلك على أيدي التجار والبائعين والوزَّانين.

كُتاب مصري قديم
كُتاب مصري قديم

بعض الآباء كان لديهم رغبة صادقة في أن يشب أبناءهم على تعاليم الإسلام، وأن يكونوا طلابا في الأزهر الشريف؛ لذلك حرص هؤلاء على أن يُتم الأبناء حفظ القرآن الكريم في الكتَّاب، ثم تثبيت الحفظ، ومن ثم المراجعة الدائمة التي تجعل الصغير حافظا لكتاب الله عن ظهر قلب.. ولكن الكتاتيب لم تكن لتعمل بالصورة المرجوة؛ وذلك لأسباب عديدة منها ضعف الرقابة عليها؛ بل وانعدامها في كثير من الأحيان.. وقد كان الشخص الذي يتولى أمر التعليم بالكُتَّابويسمى فقيها أو فِقِي إما طالب علم بالأزهر قضى بعض الوقت في دراسة العلوم الشرعية، ثم انصرف عن ذلك لأيما سبب، أو داوم لبعض الوقت على حضور حلقات الدرس، أو أحد طلاب الكُتَّاب الذين قضوا فيه فترة طويلة، وأتموا حفظ القرآن الكريم، وثبَّتوه وراجعوه، أو ممن عملوا كمساعدين للفقيه، وكان يطلق على مساعد الفقيه لقبالعرِّيف“.

كان الفقيه يحظى بمكانة مرموقة في المجتمع؛ نظرا لكونه حاملا لكتاب الله، كما كان يُصرف له الملبس الخاص بالمشايخ من هيئة الأوقاف، ويحصل على راتب شهري من كل طالب بالكُتاب، وكان للقاضي حق الرقابة على الفقيه، فكان يتولى محاسبته إذا استوجب الأمر ذلك.

كُتاب مصري قديم

أما العرّيف فكان يساعد الفقيه في أمور التحفيظ، ويتولى التأكد من جودة حفظ الطلاب، ويُكلف من قبل الفقيه بمحاسبة المقصرين، أو معاونة الفقيه في إنزال العقاب بهم،كما كان يتولى جمع الراتب، وما يقدم للفقيه من العطايا منقِبَل الأهالي، وفي الغالب فإن العرِّيف كان يُرقَّى ليعمل كفقيه للكٌتَّاب في حالة وفاة الفقيه، أو يتولى التعليم في كُتَّاب آخر بعد أن يكون قد تمرٍّس، واستوعب مهارات المهنة وخبر خفاياها.

وكانت هناك المدارس الملحقة بالمساجد ومكتباتها، إذ حرص بعض أمراء المماليك على إقامة تلك المدارس، وإلحاقها بالمساجد التي بنوها تخليدا لذكرهم، ولكن هذه المدارس تعرضت للإهمال بسبب انقطاع الأموال التي وُقِفَت عليها، بعد تحول مصر إلى ولاية عثمانية، وما استتبع ذلك من تردٍ واضح في كافة مناحي الحياة.

وكان من شناعات حكم “العثمانلي” الغازي أن حمل إلى بلاده كلُّ صاحب فن أو مهارة أو تميز في الحرف والصنائع ونحوهما.. فانحدرت بذلك فنون المهن إيما انحدار، وانحسر الضوء عن العالم العربي بأسره، تحت هذا الحكم الجائر.. وبقي نجم الأزهر الشريف بازغا يؤمه طلاب العلم من شتى البقاع.. فكانت الأروقة التي صُنِّفَت وفق البلدان كرواق الشوام ورواق الأتراك، ومن المعلوم أنَّ التدريس في الأزهر الشريف لم يقتصر على العلماء المصريين، بل كان علماؤه من كافة أقطار العالم الإسلامي.

التعليم الأزهري

وقد اقتصرت العلوم التي كان يدرِّسها هؤلاء العلماء على العلوم الشرعية، أما العلوم الأخرى كالطب والصيدلة والهندسة والجغرافيا وعلوم الفلك، فقد كانت هناك بعض الاجتهادات بشأنها، ففي الطب مثلا برز اسم الشيخ الدِّيَرْبِيوكانت الصيدلة مهنة تُمتهن من قبل المعالجين الشعبيين، ولم تعتبر علما مستقلا إلا في أضيق الحدود.

كما برز اسمالجبرتيالمؤرخ الشهير في التاريخ، وبالنسبة للغات الأخرى فقد شاع الاهتمام بتعلم التركية والفارسية، ونقلت بعض آثارهما الأدبية إلى العربية، ولم يعرف من الآثار الأدبية العربية في هذا العصر سوى (مقامات الحريري) التي كانت محل إعجاب المصريين، وكانت تُقرأ في مجالس الأعيان وبيوت الأغنياء. ومن الجدير ذكره أن الإسهامات العلمية التي نسبت إلى هذا العصر لم تكن إلا حواشي وتعليقات على الكتب القديمة، ولم يعرف عن هذه الفترة أنها شهدت إنتاجا أصيلا في أي مجال من مجالات العلم المذكورة آنفا.

مقامات الحريري

اهتمت الطوائف الأخرى من غير المسلمين بتعليم أبنائهم، وفق ما فرضته الظروف القائمة آنذاك، فبالنسبة للأقباط كان التعليم يتم من خلال الكنيسة التي كنت تدرس اللغة القبطية إلى جانب اللغة العربية التي كانت النصوص المقدسة تترجم إليها، بالإضافة إلى مبادئ الحساب والهندسة وعلم المساحة وحساب فيضان النيل، ونحوها، مما يعتبر إعدادا وتهيئة لدخول سوق العمل، وكانت الكنيسة الكاثوليكية قد بدأت منذ مطلع القرن الثالث عشر بإرسال الرهبان إلى مصر في محاولة لمزاحمة المذهب الأرثوذكسي، ومع منتصف القرن الثامن عشر كانت المدارس الكاثوليكية قد انتشرت في صعيد مصر واجتذبت إليها بعض الأقباط، من خلال ما كانت تقدمه من خدمات، كما ساهم في انتعاش وضع تلك الإرساليات قدوم الكثيرين من مسيحي الشام ممن يدينون بالمذهب الكاثوليكي، وكانوا من ذوي المهارات حتى أن المماليك قد استبدلوهم باليهود في كثير من الوظائف. بالنسبة لليهود فلقد كانت أعدادهم قليلة؛ فاقتصر التعليم لديهم على ما يدرس من تعاليم الدين في المعابد إلى جانب تعليم اللغتين العبرية والعربية. أما المماليك فقد اهتموا بجلب الصغار من آسيا، وتلقينهم مبادئ الإسلام وحفظ القرآن الكريم، وتعليمهم اللغتين التركية والعربية، إلى جانب فنون القتال، وما لبث التعليم أن تراجع أمام تنامي الاهتمام بالتدريب على الأمور العسكرية، غير أنَّ عديدا من أمراء المماليك كان قد عُرف عنهم قربهم من علماء الأزهر، وحضورهم مجالس العلم، وقد رأى المماليك أنهم في حاجة ماسة إلى تطوير قدراتهم العسكرية، واستعانوا ببعض الضباط الأوروبيين، ولكن تلك المحاولات لم ترق إلى مستوى التأثير، أما العثمانيون فقد حاولوا اللحاق بالركب الأوروبي في المجالات العسكرية واستعانوا بخبرات بعض الضباط الأوروبيين أيضا في تجربة أكثر جدية أدت إلى تطوير القدرات العسكرية التركية في حدود ما فرضه الواقع التركي الذي تخلف في بقية الجوانب.

المماليك في مصر
المماليك في مصر

مما سبق يتبين لنا أنَّ حال التعليم في مصر في أواخر القرن الثامن عشر كان شعثا لا ينتظم في شكل واحد، وبالتالي فإنَّ مخرجاته على ضعفها كانت تفي بالكاد باحتياجات المجتمع من المتعلمين، وكان التركيز في أغلبه على توريث الحرف والصنائع، مع التعليم الديني الذي كان يوفر لصاحبه مكانة مرموقة في المجتمع وعملا يستطيع من خلاله أن يعيش بمنأى عن العوز والحاجة، كما كان الانخراط في الطبقة العسكرية قاصرا على المماليك المجاليب، والذين حرصوا على ترك العديد من الآثار التي تدل على تقديرهم للعلم والعلماء، كالمدارس التي أنشئوها وأوقفوا عليها الأوقاف قبل أن تغتالها يد الإهمال؛ لتصبح أثرا بعد عين. وكان من جراء تلك العزلة التي فرضتها الدولة العثمانية على مصر أن تخلف المصريون في معظم أمور حياتهم، تخلفا لم يلحظوا خطورته إلا عندما فاجأهم الفرنسيون بحملتهم العسكرية الشهيرة.. وللحديث بقية.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock