لا أعتقد بوجود مفكر عربي في تاريخ العرب الحديث، امتلك ناصية الفكر كما امتلكه «الأستاذ العميد طه حسين» الذى توافق اليوم الثامن والعشرين من أكتوبر ذكرى رحيله السادسة والأربعون
فقد تنقل العميد بين شتى صور وألوان الفكر من رواية أو نقد أدبي أو تاريخ أو تراجم أو تربية أو علم اجتماع أو علم نفس، أو فكر إسلامي أو دراسات مُستقبلية أو حتى الشعر، والذي قاربه في مطلع حياته الإبداعية، ثم سرعان ما تّخلىّ عنه
غير أن السمة الرئيسية المُلازمة لكل صور الإبداع عند «طه حسين» هي أخذ الأمور بجدية وصرامة ودقة فاقت كل حد، حتى أنه من الصعب العثور عَلى عمل من أعماله يمكن وصفه بأنه افتقد تلك الصفة الجادة والمُرهقة لأي كاتب أو مُبدع حقيقي….
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/511945746210888/?t=0
الكتاب الوثيقة
كتاب «قادة الفكر» الذي صدرت طبعته الأخيرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام ٢٠١٤، هو واحد من تلك الإبداعات التي أثرىّ بها الأستاذ العميد، حياتنا الفكرية والثقافية، فعلى ما اشتمله من الفلسفة والتأريخ والتراجم، فقد كان شهادة مُبكرة لميلاد مُفكر عملاق، فقد صدر الكتاب في عام ١٩٢٥ وعُمر مفكرنا الكبير قد تخطى الثلاثين عاماً بستة أعوام، وبعد سنتين فقط من وضع كتابه الهام والخطير «في الشعر الجاهلي» والصادر في عام ١٩٢٣، فكتاب «قادة الفكر» هو نموذج للبحث الجاد والمُضني الذى يستلزم جهداً وبحثا للكاتب وللقارئ عَلى حد سواء، كتبه بين بريطانيا وفرنسا ومصر، مُقتطعاً من أوقات راحته في لندن وباريس، أو مُصاحباً لأوقات عمله أستاذاً في الجامعة المصرية، وخلال سنوات عصيبة من حياته، هي تلك السنوات التالية لصدور كتابه «في الشعر الجاهلي» حيث واجه معركة ضارية، وحرباً ضروساً، حاولت النيل من دينه ومُعتقده واسلامه.
والمُدهش حقاً لقارئ هذا الكتاب الوثيقة، والتي لا يعرف، للأسف، الكثيرون من أبناء النخبة المصرية والعربية المُثقفة، شيئاً كبيراً عنه، أنه كتاب صُنع بدقة عالية، وتّخصُصُ عميق، وقوة في الفكرة تصل الى حد الرسوخ والشموخ معاً.
وهو يتناول الحياة الإبداعية لأربعة من أئمة الفكر الإنساني، وهم «هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس» أو «أرسطو» فضلاً عن اثنين من قادة التاريخ الأفذاذ، هُمّا «الإسكندر المقدوني» و «يوليوس قيصر»….
من الشعر إلى الفلسفة
قبل البدء في تناول الشخصيات التي أتىّ عليها «طه حسين» في كتابه حذّر الرجل من خطر الوقوع في أُحادية التناول لهؤلاء القادة، فهو يُعطي لدور الجماعة في تشكيل وعي الفرد أهميتها المُستحقة، ولكنه لا يترك دور الفرد في التاريخ مهْمَلا، ولذلك فهو يأخذ من الجانبين ما يجعل الصورة مُعتدلة ومتوازنة…
غير أن الحديث عن القرون الباكرة في حياة الفكر الانساني وضع الدكتور «طه» أمام حقيقة لا مفر منها، وهي أن الأُمم في مرحلة البداوة بدأت بالشعر، هكذا كان الوضع في اليونان وفي صحراء العرب، ويقول نصاً:
«فالعرب واليونان يتشابهون من هذه الجهة، تّشابُهاً كاملاً، تستطيع أن تبحث عن فلاسفتهم وحكمائهم وقادتهم وساستهم ومدبري أمورهم الاجتماعية أيام البداوة فلا تجد إلاّ الشعراء، ثم تستطيع أن تبحث عن فلسفتهم ودينهم ونظمهم المختلفة وحياة عقولهم وعواطفهم فلا تجدها إلاّ في الشعر»….
ولكن «طه حسين» يضعنا أمام حقيقة تاريخية نادرة، فرغم أهمية الشعر والشعراء، فقد نسيت البشرية الكثيرين منهم، فيما عاشت عَلى آثارهم عصوراً طوالاً، ويعطينا دليلاً دامغاً عَلى صحة ما وصل اليه من استنتاج، فمثلا ملحمة «الإلياذة» و«الأوديسا» تحدث التاريخ الثقافي للإنسانية عن مؤلف هذا العمل، والمُفترض أنه «هوميروس» فلا نجد سوى أقاصيص تَعجبْ لها، حتى أن دراسات أوروبية صدرت في نهاية القرن التاسع عشر تُنكر شخص «هوميروس» وتجحده جُحوداً تاماً، وتزعم أن «هوميروس» هو الأمة اليونانية كلها، وأن «الإلياذة» و «الأوديسا» أثران من آثار الأمة اليونانية كلها…
ولأن رحلة البشرية مع تطور «الفكر الإنساني» ليست سهلة، فيؤكد «طه حسين» أن ذلك التطور والانتقال من سيادة الشعر الى سيادة الفلسفة إمتد لقرون، فالشعر هو الخيال والتصور، إنما الفلسفة هي مظهر من مظاهر الحياة العقلية التي لا تعتمد عَلى الخيال في شئ…
ففي اليونان القديمة، أو ما يُعرف ببلاد الإغريق، لم تستقر الفلسفة عَلى عرشها إلاّ بعد أن سادت فلسفة «السوفسطائيين» القائمة عَلى الشك والجدل وإعطاء كل ظاهرة ما يؤكدها وينقضها في نفس الوقت.
معارك سقراط
وفي هذا المُناخ الذي تناول فيه «السوفسطائيون» كل حدث أو واقعة بالشك والتفنيد، جاء «سقراط» ليُبدد آثار تلك المدرسة بعد معارك صاخبة ومواجهات خطيرة، أوقعته في النهاية في صدام مع الاستبداد والشعراء والسفسطائيين، فقُدم إلى المحاكمة التي قضت بموته، ذلك الموت الذي قابله «سقراط» بالسخرية والإزدراء من قضاته، وهي وقائع يتوقف عندها الدكتور «طه حسين» بالوصف الدقيق والشرح المُثير….
ولكن الأستاذ العميد يُطلعنا عَلى «الفلسفةالسقراطية» بكلمات موجزة، مع شرح وافٍ لها في كتابه، ومن الصعب هنا التوقف عندها بالتفصيل، فيقول نصاً: إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إماماً له في سيرته وفي تعليمه، وهي هذه الحكمة «أعرف نفسك بنفسك»، وهذه الفلسفة تنحصر في شيئين: هُما، أن الانسان قد جهل نفسه في جميع العصور المُتقدمة وأن جهله بنفسه هو الذي حَمَلَه على أن يلتمس العلم من الخارج، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء «أما العامل الثاني الذي يحدده «طه حسين» فهو «أن الفلسفة يجب أن تقوم عَلى معرفة النفس والعلم بها، أي يجب أن تكون إنسانية، أي يجب أن تقوم عَلى الأخلاق قبل كل شئ»
سقراط
مدينة أفلاطون
قبل أن يتجاوز «سقراط» العقد الخامس من عمره بسنوات قليلة، يولد قائد كبير من قادة الفكر، ففي سنة ٤٢٨ قبل ميلاد السيد المسيح، ولد «أفلاطون» والذي بات تلميذاً ومريداً حميماً لمعلمه «سقراط» فأخذ منه الكثير، غير أنه عاش فترة الحرب العظمى بين بلاده اليونان وإسبرطه، والمعروفة باسم حرب «بيلوبونيز» ومنها عرف كيف تنشأ الأمُم وتنهار الدول، فقد شارك «سقراط» في تلك الحرب وعرف من أستاذه مباشرة وقائعها ودروسها…
بيد أنه هاجر الى بلاد كثيرة منها مصر التي كانت أثينا مُعجبة، بل مبهورة بحضارتها العريقة، ومنها ارتحَل الى آسيا الصُغرىّ، غير أنه استقر لعدد وافر من السنوات في إيطاليا، واستفاد من مذهب «فيثاغورث» الذي يجمع بين الفلسفة النظرية والخبرة العملية…
وبعد معرفة عميقة بالتاريخ ودراسة المجتمعات المختلفة نهضت فلسفة «أفلاطون» عَلى المزج بين معرفة الانسان للكون، ومعرفة الإنسان لنفسه، وعند هذه الحقيقة وضع «أفلاطون» تصوره لما يُعرف بـ«المدينة الفاضلة»، فهي تقوم أولاً عَلى قاعدة راسخة هي «العدل السياسي» وهو ثلاثي الجوانب، مثله مثل النفس البشرية، فهو يضم «نفس عاقلة وهي الحكومة»، وتقوم مقام العقل في الفرد، و«نفس غاضبة» تقوم بالحفاظ عَلى المجتمع من مخاطر الداخل والخارج، وهي الجيش، وتقوم مقام الصدر في الإنسان، و«نفس شهوية مادية» تقدم للمجتمع ما يحتاجه من لوازم الحياة، وهي طبقة العمال والزُرّاع ومن يماثلهم، وهي ما تُمثله البطن في الإنسان الفرد…
أفلاطون
أرسطو.. والحقيقة العليا
وكأنها سلسلة ذهبية، ترتبط حلقاتها بعضها ببعض، يأتي «أرسطاطاليس» أو «أرسطو» ليكون محصلة موضوعية لقراءاته لفلسفة «سقراط» الذي لم يعاصره، ولفلسفة أستاذه «أفلاطونز»، فيقوم مذهبه الفلسفي عَلى أن الحقائق الثابتة تنتهي كلها في آخر الأمر الى حقيقة عليا، عنها صدرت واليها تعود، وهي حقيقة الإله، الذي صدر العالم عنه، والذي يعود العالم اليه….
وبهذه الفلسفة الحاسمة، أجمع المؤرخون القدماء والمحدثون عَلى أن «أرسطو» ترك من الآثار الفلسفية تراثاً ضخماً لم يسبق إلى مثله ولا إلى ما يشبهه أحد.
ومن هنا، وُصف بـ«المُعلم الأول»، لا لأنه من تولى تربية «الإسكندر المقدوني» بالرعاية والتعليم، ولكن لأنه بحسب «طه حسين» هو «من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة عَلى البقاء، اذا صح مثل هذا التعبير، ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر، فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث، إلاّ اذا عّنيّ بـ«أرسطو» وفلسفته، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية، وهي المنزلة الأولى»
يبقى من هؤلاء اثنين من قادة التاريخ الأفذاذ «الإسكندر المقدوني» ونظيره «يوليوس قيصر» سيد روما وباني إمبراطوريتها، فلا نجد لهما وصفاً دقيقاً وشاملاً، سوى أنهما كانا الوارثين الذكيين والقويين لتراث «سقراط وأفلاطون وأرسطو» في مجال آخر، هو مجال «الحرب والسياسة» وهو مجال ربما يكون أخطر من مجال الفلسفة، ولكن ليس أهم وأعظم وأجل مما تركه قادة الفكر «هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو» من فكر وفلسفة وثقافة وعلم وتاريخ….