لم تعُد الدعوة إلى تجديد الفكر الديني وتثويره ترفًا في هذا الزمان؛ بل هي في مقدمة الأولويات التي تفرضها الظروف الراهنة، مع تصاعد موجات الإرهاب المتلبّس بالدين، والمتّكئ على نصوص تراثية لتبرير أعماله الوحشية وجرائمه التي لا تزال تُرتَكب باسم الدين، وتتمسّح بنصوصه التي طوّعها الفقهاء والمحدّثون على اختلاف أيديولوجياتهم، ومذاهبهم التي كانت حاضرة، يقينا، بكثافة لحظة صياغتهم لتلك الآراء والفتاوى والأفكار التي قدّسناها، ولم نراعِ أنها اجتهادات بشرية وُضِعت لزمان ومكان مغايريْن لزماننا ومكاننا.
ويأتي الاهتمام بقضية إصلاح وتجديد الفكر الديني، كاهتمام طبيعي بتزاوج العلاقة بين الدين والمجتمع وأفكاره المتلاقحة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فقضية التجديد تلك ليست ترفا كما ألمحنا آنفا، كما أنها ليست منعزلة ومبتورة عن السياق المجتمعي الراهن؛ ذلك السياق الذي ينبئ بأنّ تجديد الفكر الديني ليس قضية دينية فحسب، بل هو قضية مجتمعية شاملة تضمن “أنْسَنَة” ذلك المجتمع، وتفتيت أساطيره وجموده الديني والأخلاقي، اللذيْن تسرّبا إلينا من نقطة زمنية قديمة، بفعل تواطؤ وتغافُل وفشـل المؤسسات الدينية الرسمية، وتحالفهما مع الجهل والخرافة والجمود والتقليد.
كان تزايدَ خطر الإرهاب، وبروز الجماعات الإرهابية المختلفة، خصوصا داعش، هو ما عجّل من اهتمام النخب الثقافية والسياسية والإعلامية بقضيته، فكانت التحليلات والمعالجات لها على رأس أولويات تلك النخب، منذ ثورة 25 يناير 2011، ولا سيما بعد سقوط جماعة الإخوان في مصر في 30 يونيو 2013، واشتباك العلاقة بين الدين والثقافة والسياسة، بعد ما سُمِّي بثورات «الربيع العربي»، التي عجّلت بسقوط أنظمة حكم عربية موغلة في الديكتاتورية، وسياسات تجهيل وتجريف المجتمعات العربية، كما عجّلتْ بتسارع الأحداث السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي، بحيث يمكننا أن نقول: إن قضية الإصلاح الديني كانت، ولمّا تزل، من أهم قضايا هذا العقد المضطرِب، الذي اجتاحه الإرهاب والفكر المتطرف، ولا سيما بعد سقوط العديد من الأنظمة في المنطقة، وتفشّي حالة عارمة من الفوضى، عجّلت بتمدّد تنظيمات إرهابية خطيرة، على رأسها تنظيم داعش، استطاعت أن تملأ الفراغ الكبير الذي خلّفه تنظيم القاعدة، الذي فقد زعيمه ومؤسِّسه أسامة بن لادن، في الثانى من مايو عام 2011 فى مدينة أبوت أباد في باكستان على إثر غارة أمريكية.
تحولات الإصلاح الديني
قضية الإصلاح وتجديد الفكر الديني في مصر قضية قديمة، ربما منذ تنبّه الأستاذ الإمام محمد عبده (توفي عام 1905) إلى ذلك، بعد تتلمذه على يد مصلح الشرق جمال الدين الأفغاني (توفي 1897)، لكنها كانت تخبو وتشتعل، مرة بعد مرة، حتى ظهرت جماعة الإخوان ومن بعدها ظهر المدّ السلفي المتشدد، ثم جماعات التكفير والإرهاب، فبدأت تظهر من جديد دعوات الإصلاح والتجديد، في ثمانينيات القرن الماضي، حتى خمدت مرة أخرى، لتظهر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وسقوط بعض الأنظمة العربية، وظهور تنظيم داعش الإرهابي بجرائمه المروعة التي ينفّذها معتمدا على بعض النصوص الدينية.
محمد عبده – جمال الدين الافغاني
وفي خضم المطالبات المتكررة من جانب أطراف عديدة بضرورة إصلاح الخطاب الديني ومؤسساته، وهي المطالبات التي تبنتها القيادة السياسية المصرية الحالية بقوة وجعلتها أولوية متقدمة لديها، عملت مشيخة الأزهر على تطوير مناهج المعاهد الأزهرية،. لكنه كان – حسب رأي البعض – تطويرا ظاهريا، لم ينفذ إلى اللباب، ومع ذلك فما زال الأزهر والقائمون عليه يحاولون إثبات إيمانهم بالتجديد وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي علقت بأذهان البعض، فضلا عن تحصين الشباب المصري من أفكار التنظيمات المتطرفة.
كما شهدت السنوات الأخيرة محاولات في الاتجاه ذاته، من قبل باحثين ينتمون للتيار المدني، ففي كتابه «تجديد الفكر الديني.. مقدمات أولية»، يرى الدكتور نبيل عبد الفتاح، أن سؤال التجديد الديني – في الفكر أو الخطاب – أصبح خطابا سلطويا، ولم يعُد جزءً مركزيا أو رئيسًا من الهموم الفكرية للجماعات الثقافية أو المؤسسة الدينية الرسمية، مشيرا إلى أن ردود الأفعال على هذه الدعوة مترددة وتقليدية، وتعيد استجابات قديمة وتحاول احتواء الدعوة إلى تجديد الخطاب من دون دراستها في العمق. كما يلاحظ أن سياسة المراجعات الفكرية اتسمت بمحاولة الاحتواء، وتحرير كوادر الحركة الإسلامية الراديكالية من دائرة الفكر العنيف ومحركاته إلى دائرة رفضه، لكن الواقع يشير إلى استمرار هذه البنية العقلية النقلية السلفية في إطاره، ولم يخرج عن هذه الدائرة من خلال بعض التفسيرات إلا بضعة أشخاص، بل إنَّ بعضهم عاد إلى الفكرة السلفية الجهادية في أعقاب ثورة 25 يناير وفي المراحل الانتقالية، بل زاد بعضهم في الغلو أيضا، وهو ما يعطي إشارات إلى أنَّ تحولات الإصلاح الديني في مصر تشهد شدًّا وجذبًا على الرغم من اختمار فكرتها، وتبنّي السلطة لها، لأن الوعي الجمعي بخطورة تلك التحولات لم يوجَد بعد، فضلا عن تراجُع أهمية ومركزية دور المثقفين في مصر، واستبعاد أي دور لعلماء الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والقانون والطب، وغيرهم، وعدم الاعتراف بحقهم في المشارَكة في عملية تطوير وتحديث الفكر عموما، والديني منه خصوصا!.
الإصلاح الديني والدولة الوطنية
احتفظت جماعات الإسلام السياسي في مصر والعالم العربي والإسلامي خلال السنوات الأخيرة بنشاطها وتأثيرها لدى قطاعات معتبرة من الشباب والمغيبين والمهووسين بأفكار ماضوية، على الرغم من أنّ تلك الجماعات قد انكشفت كلها، تقريبا، بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين تحديدا، وتعبئتها الأجواء ضد حكوماتها الوطنية وتحالفاتها المريبة، سواء مع تركيا بأحلامها العثمانية التوسعية، أو إيران بأطماعها الفارسية المذهبية، وهذا الاضطراب ينبئ بأنّ طريق الإصلاح الديني لمّا يزل طويلًا، مليئًا بالأشواك، ويحتاج إلى إرادة سياسية جريئة، ما دام الأمر يتعلّق بـ «الدولة الوطنية»، التي لا تعترف بها بعض جماعات الإسلام السياسي. فتجديد الفكر الديني له علاقة مباشرة بحفظ كيان الدولة الوطنية المعاصِرة، ومؤسساتها، وبنائها القانوني، ومبدأ وجودها نفسه؛ لتدعيم قيم الوَحدة الوطنية، وغرس ثقافة قبول الآخر، واحترام الاختلاف والتعددية، والتركيز على القيم المشترَكة في الأديان كلها؛ كالمحبّة والتسامُح واحترام عقائد الآخرين، بعيدا عن الفكر الشمولي المنغلق للتنظيمات الراديكالية الأصولية، لكن النظم التعليمية في العالم العربي ما تزال تفتقد إلى مناهج النقد والتفكير العلمي، فضلًا عن طبيعة المجتمعات العربية المحافِظة، بطيئة التطور والديناميكية، ما يعني أن كلام البعض عن انتهاء أو حتى انزواء حركات الإسلام السياسي في المستقبل القريب ربما ينطوي على قدر من التسرع، حيث أن جهود تجديد الفكر الديني لا تزال في بداياتها!