ثقافة

التراث والتجديد عند صاحب “الفن القصصي في القرآن”

برز اسم محمّد أحمد خلف الله سنة 1947 إثر مناقشة رسالته للدكتوراه عن “الفنّ القصصي في القرآن الكريم” تحت إشراف أستاذه في التفسير بجامعة فؤاد الأوّل، القاهرة حاليًّا، أمين الخولي، حيث أثارت هذه الرسالة ردود فعل عديدة رافضة لما جاء فيها وصلت حدّ التكفير، إذ اعتبرت ما أتى به خلف الله تقويضًا لقداسة النص القرآني ونزعًا لصبغته الإلهيّة، وقد بلغ الأمر إلى درجة تكوين لجنة خاصة أعادت النظر في محتوى الرسالة وانتهت برفضها ومطالبة صاحبها بإعداد رسالة أخرى. إلاّ أنّ محمّد أحمد خلف الله لم يرضخ للحملة التي قامت ضدّه وضدّ أستاذه، وقام بنشر رسالته سنة1953 لتتوالى من ثمّ طبعاتها مرّات عدّة. ومحمّد أحمد خلف الله من تلاميذ الأزهر وكلية الآداب بالقاهرة حيث تحصّل على الإجازة سنة 1939، وقد تخصّص في الدراسات القرآنيّة وتحصّل على درجتي الماجستير والدكتوراه، ومن أبرز أساتذته نذكر طه حسين ومصطفى عبد الرازق وأحمد أمين، فضلا عن المشرف على أطروحته الشيخ أمين الخولي، الذي وجّهه نحو الاهتمام بالجانب اللغوي والبياني في بحثه مع الاستفادة من علمي الاجتماع والنفس، ومن مؤلّفات محمّد أحمد خلف الله نذكر: “القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة”، و”القرآن والدولة”، و”القرآن والثورة الثقافيّة”، و”هكذا يبنى الإسلام”، و”محمّد والقوى المضادة” وهو في الأصل نصّ رسالته لنيل درجة الماجستير، وكان عنوانها الأصلي “جدل القرآن”، و”الأسس القرآنيّة للتقدّم”،و”مفاهيم قرآنيّة”، وغيرها من المؤلفات.

وقد شغل محمّد أحمد خلف الله وظائف التدريس بكليّة الآداب، ومعهد الدراسات العربيّة التابع لجامعة الدول العربيّة، وعمل وكيلا لوزارة الثقافة المصريّة.

يحدد دكتور خلف الله مفهومه للتراث بأنه”ما ورثناه عن السلف الصالح أو السلف الطالح من قيم ثقافية قد تنفع ، وقد تضر ، والأمر بعد متوقف على مدى وعينا بحاجتنا إلى التراث، وعلى مدى ما نملك من معايير نتخذ منها أدوات التقييم هذا التراث بحيث نستطيع أن نعرف في سهولة ويسر علاقة هذا التراث بالحضارة التي نعيشها ، وبالتقدم الذي ننشده “.

ومن هذا التعرف يكون التراث عبارة عن مجمل الإرث الثقافي المتوارث عبر أجيال مختلفة، ومن هذا المنطلق يحدد لنا الدكتور خلف الله حاجاتنا لهذا التراث في نوعين من الحاجات:

النوع الأول : هو أن هذا التراث بكل ما فيه من نفع أو ضرر ، ليس إلا ما صنعه أسلافنا من أمجاد تاريخية أثناء مسيرتهم الطويلة في هذه الحياة الدنيا، وهذا النوع من التراث قد تراكم بفعل الزمن، فلقد كان كل جيل من السلف يصنع من الحضارة، ويبني من التاريخ، ما هو في حاجة إليه في العصرالذي كان يعيش فيه.

وحاجتنا إلى مثل هذا النوع تتمثل في أنه المجد الذي نتغنى به ونباهي به الآخرين. إنه جزء من كياننا النفسي والعقلي الذي ورثناه عن الآباء والأجداد. ومن هنا يجب الحرص عليه، والاحتفاظ به، مهما تكن الأسباب.

القرآن والثورة الثقافيةوفي الأمم المتقدمة مؤسسات بكاملها ليس لها من عمل إلا البحث والتنقيب عن التراث، ثم الكشف عنه والاحتفاظ به وصيانته، مع عرضه العرض اللائق به، والقادر على أن يزود الناس – كل الناس – بما فيه من قيم ثقافية كاشفة عن البني الحضارية، والأمجاد التاريخية. وتقوم المؤسسات التربوية في هذه الأمم بتضمين المقررات الدراسية في المدارس والمعاهد والجامعات، شيئا غير قليل من تاريخ هذا التراث وما يشتمل عليه من قيم ثقافية، لتبث في روح الطلاب قبسا من الإلهام، وتزودهم بالطاقات الثقافية التي تدفع بهم نحو المجد حين يصنعون مثل ما صنع الأسلاف، ويزيدون عليهم ما هم في حاجة إليه ممايتلاءم والعمر الذي ينتسبون إليه، والحضارة التي يعيشونها .

والنوع الثاني: من الاحتياجات هو الذي يتمثل في هذه القيم الثقافية التي توارثناها ، والتي لا تزال حية فاعلة ونمارس بها الحياة في أيامنا هذه . وهذا النوع من التراث لا ننظر إليه تلك النظرة التاريخية التي رأيناها في النوع الأول، ولا نحتفظ به في المتاحف ودور الكتب والآثار مثل النوع الأول ، وإنماهو حي فينا ونحتفظ به في أنفسنا ، ونعتبره من الدوافع التي تدفع بنا في هذا الموقف أو في ذاك . وهذا النوع الذي يشكل الدوافع في حياتنا ، قد يشكل في الوقت ذاته المعوقات ، وبخاصة عندما يكون سلطان السلف علينا قويا إلى الحد الذي ننزل فيه ما توارثناه عنهم منزلة التقديس.

ويؤكد خلف الله أنه في مثل هذا الموقف يكون نظرنا دائما متجها إلى الوراء وليس إلى الأمام . وإنه في مثل هذا الموقف لا يكون همنا أن نعيش حياتنا ونصنع التقدم، وإنما نعيش كما كان يعيش آباؤنا الأولون. وهذا هو الموقف الذي سجله القرآن الكريم على أهل مكة حين كانوا يقولون للنبي عليه السلام فيما حكاه القرآن عنهم : “بَلْ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ” (الزخرف – 22).

ويلخص خلف الله حاجتنا للتراث في أنها ليست إلا في تنمية التراث وتجديده ببث الحيوية والحركة فيه، بحيث يصبح ملائما للعصر الذي ننتسب إليه. والحضارة التي نعيش فيها. وبعبارة أكثر اختصار أو دقة – بحيث يصبح أساسا صالحا لتحقيق التقدم.

ويستشهد خلف الله كعادته دائما بالقرآن الكريم حيث يقول: والقرآن الكريم قد هدانا إلى السبيل التي نسلك في هذا المقام، وذلك عند حواره مع الذين وقفوا عند حدود المواريث الثقافية وقالوا هي حسبنا. هدانا القرآن الكريم إلى أن الموقف في هذه الحالة واحد من أمرين :

الأول : أن نبين لهم أن الأسلاف حين وضعوا هذه القيم الثقافية التي ورثناها عنهم لم يكونوا أهلا لذلك، ومن هنا جاءت مواريثهم خارجة عن أن تكون السبيل إلى الهداية في هذا العصر الذي كان يقودهم فيه النبي عليه السلام إلى التغيير .. لقد قال القرآن الكريم في رده عليهم، وحواره معهم : “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ” (سورة البقرة 170).

الثاني : أن نبين لهم أن ما ورثناه عن السلف من قيم ثقافية لا يزال صالحا للحياة، ولكن هناك ما هو أصلح منه وما هو أقدر على دفعنا في الحياة بقوة لنصنع الحضارة ونبني التاريخ .

جاء في القرآن الكريم بصدد الحوار مع السابقين والرد عليهم قوله تعالى : “قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ” (الزخرف – 24).

ومن خلال مشروع خلف الله في مناقشته للتراث نجد أنه يميز بين النوعين الأول والثاني من الاحتياجات. وهو أننا في النوع الأول نحتاج إلى كل التراث ، إلى كل صغيرة وكبيرة فيه ، من حيث أن نظرتنا إليه نظرة تاريخية ليس غير . أما في النوع الثاني فلا نحتاج إلا إلى ما يعيش فينا منه ، أي ما نمارس به حياتنا . ومن هنا كانت نظرتنا إليه نظرة عملية باعتباره من الأدوات أو الأساليب التي تمارس بها حياتنا. وهذا الذي بقي فينا إنما هو عصارة التراث الذي ورثناه عن كل الأسلاف، فلقد كان كل جيل من أجيال السلف يحدث من التغييرات في القيم الثقافية التي توارثها ما يبقى على الصالح من هذا التراث، وما يقضي على ما كان ضارا من الأصل أو ما أصبح ضارا بفعل الزمن.

دراسات في النظم والتشريعات الإسلاميةويخلص من كل هذا بنتيجة مهمة وهي أن ما ورثناه اليوم هو العصارة التي تحيا في أنفسنا وفي عقولنا، بعدما ادخل على هذه القيم من تعديلات بحكم الزمن، وبفعل الأجيال المتعاقبة في المراحل التاريخية المختلفة. ومن حقنا نحن أيضا أن نتعامل مع هذه العصارة من القيم الثقافية كما تعامل من سبقونا، وندخل عليها من التغيير والتبديل ما نحن في حاجة إليه لنحيا عصرنا الذي نعيش فيه، ونحقق مزيدا من التقدم. وهنا نواجه مشكلة كبرى قد نعجز عن تقديم الحلول لها. وهذه المشكلة تتمثل في التراث الديني – ذلك لأن أبناء الأمة العربية قد ورثوا، فيما ورثوه من قيم ثقافية، قيما قد جاءت عن الله، ونزل بها الوحي من السماء، وأصبحت بذلك من القداسة بحيث لا يملك الإنسان أي حق في تغييرها لتصبح ملائمة للحياة في العصر الذي يعيش فيه، وفي الحضارة التي يمارس الحياة على أساس منها، وفي صنع التقدم .

وهنا لا بد من الإشارة أيضا إلى أن رجال الدين قد زادوا من حجم هذه المشكلة حين أضافوا إلى وحي السماء أقوال المجتهدين وجعلوها هي الأخرى من المقدسات التي تؤخذ على علاتها، والتي لا يملك الانسان حق إدخال أي تغيير فيها . ويقيم رجال الدين من أنفسهم حراسا على هذا التراث المقدس : الإلهي والبشري ، وتحويل من تحدثه نفسه بأمر ماخارج هذا النطاق الذي ضربه رجال الدين لهذا التراث، إنه الملحد الكافر الذي يجب أن يقتل ، ويلقى به في النار.

ومن هنا كان من حقنا أن نبحث عما هو أصلح منه لعصرنا هذا الذي نعيش فيه ولحياتنا التي نحياها. والمفكرون المسلمون الأولون لم يذهبوا الى ما يذهب إليه رجال الدين اليوم من إنزال ما جاء عن الأئمة المجتهدين منزلة المقدس، وإنما ذهبوا إلى أنه ليس مقدسا، وأنه يصح تغييره إلى ما هو الأصلح، وذهبوا إلى أن الإجماع يمكن تغييره بإجماع آخر،أي أن إجماع السابقين ليس ملزما لمن جاء بعدهم، وعاش في عصر غير عصرهم. وهناك قاعدة أصولية يعرفها الجميع، وهي أن الأحكام تتغير بتغيرالأزمان والأماكن.

أما ما جاء عن الله في نص قرآني واضح قطعي الدلالة ووارد مورد التكليف. في فرق خلف الله بين أمرين مهمين هما العبادات والمعاملات.

فيقول خلف الله أن “ما هو من قبيل العبادات لا يملك الإنسان أيضا أي حق في تغييره أو تبديله، من حيث أن العبادات حق الله على عبيده وحقه الذي أحقه ورضي به. والظاهرة الجديرة بالتسجيل في هذا المقام، أنه قد حدث تغيير في العبادات، ولكن حق التغيير كان لله، فهو الذي جعل عبادة المسيحي مثل الله على نسق غير نسق عبادة المسلم لله، وهكذا .

ويتطرد “أما المعاملات فهي مناط المشكلة التي نحن بصددها، وهي التي تضطر الظروف الإنسان إلى أن يعيد النظر فيها من حيث هي علاقات اجتماعية بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والأشياء. وهنا نشير إلى أن ما لم يرد فيه نص. عن الله فيما يخص المعاملات، لا يشكل أي مشكلة من حيث أن ما يمكن أن ننتهي إليه من رأي فيه سوف لا يعارض نصا قرأنيا مقدسا وملزما. ومن حسن حظنا أن الكثرة الكاثرة من قضايا المعاملات والعلاقات الإنسانية أو الشيئية لم ترد فيها نصوص، والقدماء أنفسهم قد أقروا بأن ما ورد في القرآن الكريم عن المعاملات من القلة بحيث لا يقاس بما ورد عن المعتقدات والعبادات، وذلك لأن المعاملات من شؤون الناس التي يقدرون على التفكير فيها ووضع القواعد التي يتعامل الناس بمقتضاها. أما المعتقدات والعبادات فمن شؤون الله ، والله وحده هو الذي يتولى أمرها بنفسه. ومن هنا كثر إيراد الآيات القرآنية بشأنها.

مفاهيم قرآنيةويتند خلف الله إلى القرآن لتأكيد ما ذهب إليه في قوله تعالى : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ” (المائدة:101)ويسمي المفسرون هذه القضايا التي سكت القرآن عنها بالعفو، أخذا من قوله تعالى في الآية السابقةعفا الله عنها. ونستطيع في عصرنا هذا أن نعتبر من العفو المتروك للإنسان كل القضايا المعاصرة التي لم تكن موجودة من قبل، والتي لم ينزل في شأنها نص، من أمثال شهادات التأمين على الحياة، والاستثمار،والادخار، وما أشبه.

وفيما يتعلق بالموقف من التراث، هناك من يرى أن التراث هو الملزم الذي يجب العمل به، ولا يصح تجاوزه أو تخطيه، وهناك من يقول بضرورة تجاوز التراث وتخطيه، وممارسة الحياة على أساس مما انتهى إليه العقل البشري من قيم ثقافية جديدة تلائم عصرنا الذي نعيش فيه، وحضارتنا العلمية التي ننتمي إليها، وهناك فريق ثالث يحاول التوفيق بقدر الطاقة بين القديم والجديد أو التراث والتقدم، وهؤلاء جميعا قد وجدوا في كل عصر من عصور الحياة في الأمة العربية والأمم الإسلامية، ففي كل عصر وجد المقلدون للسلف المتقيدون بالتراث، ووجد المجددون، ووجد الذين يوفقون بين الجديد والقديم على حساب الجديد تارة، وعلى حساب القديم تارات.

وللبت في هذه القضية يستند خلف الله لرأي الإمام الطوفي الحنبلي المذهب المتأثر أشد التأثر بكل من ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وأستاذهما أحمد بن حنبل. حيث يرى الإمام الطوفي أن المصلحة هي التي تحكم الموقف، وأنه حين يكون التعارض قائما ولا سبيل إلى إزالته بالتوفيق بينهما تقدم المصلحة على النص، وتكون هي الأساس (محمد عبده ومحمد رشيد رضا، تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ، القاهرة : دار المنار ، ج۷، ص ۱۹۰).

تفسير الفاتحةوالعنوان الذي وضعه الطوفي لهذه القضية في باب أصول الفقه هو: أدلة الشرع وتقديم المصلحة في المعاملات على النص. وفي إحدى الفقرات يقول:”من المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدأهم ، ومعادهم ، ومعاشهم . ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية إذ هي أهم، فكانت بالمراعاة أولى. ولأنها أيضا من مصلحة معاشهم، لأنها صيانة أموالهم ، ودمائهم ، وأعراضهم ، ولامعاش لهم بدونها .. فالمصلحة وبقية أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا. فإن اتفقا فبها ونعمت … وإنا اختلفا ، فإن أمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه ، جمع وإن تعذر الجمع بينهما ، قدمت المصلحة على غيرها ، لأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock