من منا لا يذكر “سي السيد” او السيد احمد عبد الجواد وهو اسمه الكامل كما اسماه نجيب محفوظ ٫ الأديب المصري الكبير الذي أبدع هذه الشخصية في ثلاثيته الأدبية الشهيرة (بين القصرين- قصر الشوق -السكرية) وحولتها السينما المصريه الى ايقونة في فيلم أخرجه حسن الإمام وجسدها ببراعة الفنان الراحل يحيى شاهين.
منذ أن أطلت هذه الشخصية على الجمهور المصري والعربي لأول مرة في فيلم “بين القصرين” في ستينات القرن الماضي وهو القسم الأول من الثلاثية أثارت العديد من ردود الفعل المتباينة.
فمن ناحية صارت الشخصيه مثالاً يُضرب في حوارتنا نحن المصريين للرجل الطاغية في داره٫ المستبد بأهل بيته وفي مقدمتهم زوجته بطبيعة الحال والمتحكم في أولاده ومصيرهم وحياتهم والرافض لأي رأي أو قول أو فعل يخالف قناعاته الشخصية.
في المقابل يرى البعض ان “سي السيد” هو نموذج للتناقض٫ واذكر في هذا الصدد مقارنة أجراها الكاتب القصصي الراحل محمد مستجاب في احد مقالاته في مجلة العربي الكويتيه٫ حين عقد مقارنة بين سي السيد وبين شخصية الأب في رواية الإخوة كارامازوف للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي٫ ففي كلا العملين فإن الأب هو رمز الخٌلق القويم داخل البيت لكنه عربيد خارج البيت.
وبطبيعة الحال فإنها شخصية كريهه بالنسبة الى المنتميات إلى الحركة النسوية اللواتي يعتبرن أنه رمز لكل ما يرفضنه في الرجل وأنه ايقونه ينبغي تحطيمها.
إلا أن الغائب في رأيي في كافة هذه الرؤى هو السياق التاريخي للشخصية ومدى انعكاس الواقع الذي عاشته على سلوكها الاجتماعي.
ولعل هذا ما أشار إليه الفنان القدير يحيى شاهين في أحد الحوارات التلفزيونية التي اجريت معه٫ حيث أكد أن كافه ممارسات سي السيد كانت مرتبطة ارتباطاً تاماً بالفترة التي عاشها٫ في السنوات الأولى من القرن العشرين والتي لم تشهد احتلال الانجليز لمصر فحسب وإنما هزيمة وتفكك الدولة العثمانية التي كان يؤمن بها ايماناً تاماً ويراها “دولة الخلافة” الجامعة لمسلمي العالم.
يطرح هذا في نظري ضرورة أخذ ظروف المرحلة في الاعتبار عند تناول “سي السيد”٫ فهو شانه شان اغلب المصريين راى بأم عينيه محتلاً اجنبياً يستبيح تراب الوطن ويُذل أولاده وهو امر لا يعتبر في عُرف كل من هو “سي السيد” إهانة للكرامة الوطنية فحسب وإنما إهانة للرجولة ايضا.
ومع احساس سي السيد وكل من مثله ممن اصطلح على تسميتهم ب “اولاد البلد” بالعجز عن إزاحة هذا الكابوس المسمى بالاحتلال الأجنبي الجاثم على صدر الوطن فانهم يبحثون عن متنفس يعيد اليهم بعضا من رجولتهم التي انتهكها المحتل.
ويكون هذا المتنفس في بيوت الراقصات٫ فهنا يمكن لهم أن يمارسوا شكلاً من اشكال الفحولة المفتقدة وأن يحظوا بلذة الغياب عن الواقع المرير ولو لبضع ساعات وسط كؤوس الشراب وهز الخصر والاغاني.
والطريف هنا أن ذات الرجل٫ اي سي السيد٫ الذي يقضي ليله مع الراقصات٫ لا ينقطع عن زيارة الامام الحسين في مرقده الشريف في الحي الذي يقطن به.
يمارس سي السيد ما يطلق عليه الباحثون “التدين الشعبي”٫ ذاك الذي يقتبس الكثير من التصور الصوفي٫ من حيث الإيمان بأن جوهر التدين هو الحب٫ وخاصه حب ال بيت النبي الكريم٫ ولذلك فان سي السيد لا يُنزل بولده الصغير عقاباً حين يراه في رحاب الامام الحسين٫ بل يحتضنه في لحظة فخر واعتزاز حين يدرك ان صغيره يواظب على زيارة الامام وانه يكن له حباً عميقاً ويدعو الله تعالى متوسلاً بمقامه أو كما يصيغها سي السيد “قد كده بينك وبين الحسين عمار”.
أما استبداد سي السيد في داره فيمكن فهمه كمحاولة من مصري مهزوم مقهور بفعل الاحتلال٫ ذلك الاحتلال الذي أذله على باب داره في مشهد شديد الدلالة٫ للحفاظ على كرامته وسيادته في وطنه الصغير إذا صح التعبير٫ فان عجز السيد احمد عبد الجواد أن يكون سيداً مطاعاً في وطنه فلا أقل من أن يكون الحاكم المطلق في داره٫ لا ينازعه فيه أحد السلطان.
لذا فإن الغضب يستبد به حين تعصي زوجته امره حيث يعتبر أن سطوته قد اُهدرت داخل الدار كما اهدرها المحتل خارجه٫ ولذا لا بد من عقاب رادع لزوجته واولاده المتفقين معها يعيد الى سي السيد بعضاً من ماء الوجه.
أما السيدة أمينة زوجة سي السيد٫ فان تفسير سلوكها على الطريقه النسوية باعتباره ضعفاً وسلبيه بل واستسلاماً للرجل في رايي يعد تفسيراً قاصراً٫ فما قد تراه بعض نساء زماننا ضعفاً٫ هو في عُرف أمينه وفي زمانها حب لا متناه لزوجها واولادها وحرص شديد منها على الحفاظ على دارها خاصة وأنها تعلم أن زيجة سي السيد الاولى قد انتهت بالطلاق وان ابنه من تلك الزيجة قد نشأ على يديها هي لا في كنف أمه.
خلاصة القول٫ أن كل من السيد احمد عبد الجواد وامينه هما نتاج عصرهما بامتياز ولا يمكن إغفال ظروف ذلك العصر عند تحليل وتقييم شخصية كل منهما كما لا يمكن تقييم الماضي بمقاييس الحاضر.