كتب الدكتور رشدي سعيد هذا الكتاب باللغة الإنجليزية أولا ليكون مرجعا للمتخصصين؛ لكنه غير وجهة نظره هذه في مرحلة الإعداد للنشر وقرر أن يغير أسلوب الكتاب إلى لغة أيسر يفهمها القارئ العادي.. ثم كان القرار الثاني بترجمة الكتاب إلى قراء العربية بعد تشجيع رئيس تحرير دار الهلال ليصدر الكتاب عن الدار عام1993.
ويعتبر الدكتور رشدي سعيد واحدا ممن وضعوا أسس علم الجيولوجيا بمصر كما ارتبط اسمه بأهم الكشوف التعدينية بها، وهو صاحب مدرسة علمية في هذا المجال، كما انتخب عضوا بالمجمع العلمي المصري والأكاديمية المصرية للعلوم وزميلا فخريا بالجمعية الجيولوجية الأمريكية وزميلا بعدد من المعاهد العلمية بأوروبا وأمريكا.. وقد نال درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة برلين التقنية وله عدد من المؤلفات التي صدرت بعدة لغات أهمها كتابه عن جيولوجيا مصر.
يقع هذا الكتاب في 342 صفحة يتناول فيها الدكتور سعيد بشكل أساسي موضوع مياه النيل؛ ويتكون الكتاب من أجزاء أربعة يتناول الجزء الأول موضوع نشأة النهر وتطوره حتى اتخاذه شكله الحالي وهذا الجزء شديد التخصص حاول الكاتب صياغته بلغة سهلة بقدر المستطاع، ثم لخَّص نتائج هذا الجزء في نهاية الفصل.
وتؤكد هذه النتائج أن النيل ظهر في مصر منذ نحو ستة ملايين سنة وأن اتصاله بإفريقيا الاستوائية كان قبل ثمانمئة ألف عام فقط.. أما النيل الحالي فهو حديث نسبيا إذ ولد مع أمطار الفترة المطيرة التي أعقبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير.. وقد تناقصت كميات هذه الأمطار بصورة كبيرة منذ نحو خمسة آلاف عام ما يؤكد “…أنه لولا عبقرية المهندس المصري القديم والحديث وجهد الفلاح المصري ما امكن لمصر أن تكون لها هذه الكمية من المياه التي تصلها بل وربما ما وصل إليها النهر أصلا”.
في الجزء الثاني من الكتاب يحاول د. رشدي معرفة أسباب تقلبات النهر من خلال دراسة “هيدرولوجية” النهر أي ما يخص علوم المياه كسبيل لاستيضاح حالة النيل منذ نحو عشرة آلاف سنة، وهل كان يحمل نفس الكمية من المياه إلى مصر؟ مستعينا ببيانات مقاييس النيل وتتبع هجرات البدو للإقامة بالقرب من وادي النهر ودلتاه؛ استدلالا على تصاعد معدلات استهلاك المياه مع النمو السكاني لتحديد إيرادات النيل لمصر في الماضي بدقة.
في الجزء الثالث من الكتاب يتناول د رشدي علاقة الإنسان بالنهر منذ مئات الآلاف من السنين، وكيف تطورت من الاستغلال البسيط كصيد الأسماك وجمع النباتات البرية مرورا بالزراعة البدائية، إلى محاولات التعامل مع الفيضان ثم محاولة ترويض النهر حتى الوصول إلى مرحلة الضبط الكامل ببناء السد العالي، وينهي الكاتب هذا الجزء بتقييم الآثار الجانبية للسد خلال عقدين منذ إنشائه.
مستقبل مياه النيل
ويتعلق الجزء الرابع بمستقبل مياه النيل الذي يؤكد الكاتب أن مصر كانت المستفيد منها حتى العقد الثاني من القرن العشرين دون أن ينازعها أحد في هذا الحق والذي أقرته الاتفاقيات الدولية بعد ذلك في زمن تقسيم النفوذ الاستعماري في القارة السمراء. وكان أولها البروتوكول الموقع في 15/4/1891 بين بريطانيا وإيطاليا الذي تتعهد فيها الأخيرة بعدم إقامة أي منشآت للري على نهر عطبرة يكون من شانها إعاقة تدفق مياه النهر إلى مجرى النيل.
وفي 15/5/1902 أبرمت بريطانيا مع إثيوبيا معاهدة تعهد فيها ملك الحبشة “بأن لا يصدر تعليمات أو أن يسمح بإصدارها فيما يتعلق بعمل أي شيء على النيل الازرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يمكن أن يسبب اعتراض سريان مياهها إلى النيل دون الموافقة المسبقة لحكومة بريطانيا وحكومة السودان”.
تلا ذلك الاتفاق اتفاق آخر في 13/12/1906 وقع في لندن بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وتضمن في بنده الرابع التزام الموقعين بالعمل على تأمين مصالح بريطانيا ومصر في حوض النيل وضمان وصول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر دون الإضرار بمصالح دول الحوض.
ويلمح الدكتور شكري سعيد إلى أن الطرف الإثيوبي قد أبدى رفضه غير مرة لاتفاقية 1902 التي كانت مؤقتة من وجهة نظرهم؛ إذ يرون أنه من غير المقبول أن تقيد أيديهم في استغلال المياه النابعة من أراضيهم إلى الأبد.. لذلك يرى الكاتب أنه باستثناء الاتفاقات الموقعة بين مصر والسودان، فإن مصر لم تفلح في إحراز تقدم في علاقاتها مع دول الحوض، باستثناء ما حدث مع أوغندا بعد تحمل مصر النفقات الكاملة لسد “أوين” لتوليد الطاقة الكهربية، في مقابل تخزين المياه لحساب مصر في بحيرة فيكتوريا.. ولم يتم التخزين لاعتراض بعض دول الجوار بحجة أن ذلك سيتسبب في غرق مساحات واسعة من الأراضي الخصبة.
ثم يتناول د. سعيد استخدامات مياه النهر في دول الحوض موضحا التباين الواضح بين مصر وبقية دول الحوض مقدرا حجم الاستهلاك السنوي في تلك الفترة –أوائل التسعينات من القرن الماضي- بنحو 78 مليار م3 يستخدم منها نحو69 مليارم3 في الزراعة بنسبة 88% تستهلك مصر منها 71% بينما تكتفي السودان بنحو 23%.. في حين تستهلك باقي دول الحوض مجتمعة نحو 6% فقط.
على ذلك يؤكد الكاتب أن على مصر أن تحافظ على حصتها في مياه النيل إن لم تحاول زيادة هذه الحصة عن طريق دعم مشروعات التطوير في الهضبتين الاستوائية والحبشية نظرا لتضاؤل المصادر الأخرى للمياه في مصر، خاصة مع صعوبة استخراج المياه الجوفية من خزانها الكبير بالصحراء الغربية الذي لا يجب أن يتجاوز السحب منه مليار م3 سنويا.
ويشير د. رشدي إلى الخلل الواضح في التعامل مع مياه النيل من كل دول الحوض خاصة إثيوبيا والسودان مشيرا إلى أن حجم المياه المتاحة لهذه الدول يبلغ نحو 470 مليار م3 لا يستغل منها إلا 227مليار م3 بنسبة 47% فقط بينما تبلغ الأراضي الصالحة للزراعة نحو 450 ألف كم2 لا يستغل منها إلا 267كم2 بنسبة لا تتجاوز 60%.
وتستحوذ إثيوبيا وأوغندا على 60% من فائض مياه حوض النيل تليهما تنزانيا بفائض يبلغ 72مليارم3 بنسبة تبلغ 18% بينما تعتبر مصر وكينيا أفقر دول الحوض مائيا.
وفي نهاية الكتاب يذكر الكاتب أن المشاكل التي تعترض طريق تنمية إمكانات نهر النيل عديدة أهمها ما يمكن أن تحدثه مشروعات التوسع الزراعي من خلل بيئي كذلك مشروعات التوسع الصناعي في دول أعلى الحوض. وللأسف فإن تدهور نوعية مياه النهر باتت ملحوظة في الآونة الأخيرة مما يستلزم سرعة التصدي للأمر خاصة من دولة المجرى الاوسط ودولة المصب.
كما يشير الكاتب إلى أزمة الثقة بين دول الحوض التي مازالت بعيدة كل البعد عن معرفة إمكانياتها الحقيقية أو تبني رؤية مستقبلية عن دورها الإقليمي أو الدولي في ظل تنامي أطماع بعض الدول في المنطقة ما يجعل من التقارب الحقيقي بين دول الحوض أمرا بعيد المنال.
ويرى د. رشدي سعيد أنه ليس من مصلحة أحد إزكاء الصراعات والمنازعات والحروب القبلية والعرقية والدينية في الإقليم، إذ ان إضعاف أحد الأطراف بهذه الوسائل لا يستلزم استقواء الاطراف الأخرى لأن الحلول الناجعة لن تأتي إلا عبر التعاون المثمر بين دول الحوض كل حسب إمكاناته واحتياجاته.