فن

رجال “أسامة أنور عكاشة”.. (2-2) ماذا عن “بشر عامر” و”على البدري”؟

كلما تتواصل رحلة البحث في عالم “اسامة أنور عكاشة ” كلما يزداد الولع بهذا الكاتب الذي جَمع بين غزارة الإنتاج وبين جودة النص ودقة الحبكة الدرامية ليستحق لقب ” عميد الدراما العربية ” فقد وضع “عكاشة ” الدراما التلفزيونية في مكانة متميزة وحوَّلها من مجرد “حكاوى ” للتسلية إلى محتوى فني يحمل رسائل فكرية ويثير حالة من العصف الذهني الدائم.

اشتبك مع كل قضايانا المعاصرة وشَخَص مواجعنا ونبش في تاريخنا بحثا عن اللؤلؤ المفقود أو المُخبَّأ عن عمد.

صنع شخصيات حقيقة من لحم ودم. تشبهنا تماما.. وطالما رأينا في أبطاله أنفسنا وأهلنا وأصدقاءنا. لم يأت بتلك الشخصيات والأبطال من عوالم أخرى فعبقرية “أسامة ” أنه جعل من الناس العادية أبطالا على الشاشة فجاءت شخصيات أعماله متعددة الأبعاد ليس بينهم ملائكة على الدوام أو شياطين على الإطلاق لتصبح “أنسنة” الدراما هي أحد منطلقات “عكاشة ” الإبداعية

كان سؤال الهوية حاضرا بقوة في دراما “اسامة” ونستطيع أن نؤكد انه كان المحور الرئيس فى كل ما قدم سواء بشكل مباشر كما جاء فى ” مازال النيل يجرى ” أو “أرابيسك ” أو ” الراية البيضا ” أو من خلال رسائل غير مباشرة فى أعمال مثل “وقال البحر ” أو ” البنوة ” أو “المصراوية “

بشر عامر عبدالظاهر… مفتاح السر

وكان مسلسل “زيزينا ” للمخرج جمال عبد الحميد ينتمي إلى النوع الأول الذي طرح فيه  أسامة سؤاله مباشرة من خلال شخصية “بشر عامر عبد الظاهر” التي جسدها الفنان يحيى الفخراني

فى عام 1997 أطل علينا “بشر ” بجملته الشهيرة ” أنا السؤال والجواب …. أنا مفتاح السر وحل اللغز، أنا بشر عامر عبد الظاهر”

 

هو سر الخلطة المصرية التي كثيرا ما أشار إليها “اسامة ” واختار معشوقته وملهمته “الإسكندرية ” تلك المدينة التي احتضنت ثقافات مختلفة واستوعبت جنسيات متعددة لتكون مسرحا لطرح السؤال والبحث عن الجواب وكأنه أراد أن يؤكد أن في تكوين هذه المدينة ” الكوزموبالتية ” مفتاح السر وأن “بشر ” يشبه إسكندرية ويمثل تنوعها دون ارتباك حقيقي حتى وإن بدا عكس ذلك .

كما اختار “أسامة ” حقبة الأربعينيات من القرن العشرين لتكون مسرحا زمنيا للأحداث باعتبار أن النصف الأول من القرن الماضي كان ذروة ذلك التنوع الحضاري الذى اتسمت به الإسكندرية

ولد “بشر عامر عبد الظاهر ” من أب مصري – تاجر ميسور بحى المنشية حيث مركز التجارة في المدينة – قرر في لحظة ان يستجيب لنداء الحب وجاذبية وجمال السيدة الإيطالية ليكون نتيجة زواجه من السيدة “فرانشيسكا ” طفل “نصف مصري – نصف إيطالي “

يكبر الطفل ويصبح شابا يعاني ثنائية الثقافة والحضارة فيما بين والده الذي يعيش في احياء المدينة الشعبية وبين أمه وعائلتها التي تحكمها تقاليد مغايرة تماما

“بشر ” الذي يرتدى الجلباب نهارا والبدلة ليلا … يتنقل بين العالمين برشاقة ودون ارتباك ويتوقف كل حين ليسال نفسه “أنا مين؟ “

هو الخواجة “بشر ” كما يناديه سكان المناطق الشعبية مثل كرموز والمنشية حيث يعمل ويسكن الأب وأهل زنانيرى حيث ولاد البلد وحلقات النضال ضد الإنجليز

 أم أنه “بيتشو ” كما تلقبه أمه وقاطنو “الرمل ” وسكان المدينة من خواجات العالم الراقي؟

هذا هو السؤال الصعب الذي طرحه “أسامة ” ….

“بشر” والهوية

سعى “بشر “-  وهو الذي وَرِث عن والده نزواته وخفة ظله ورجاحه عقلة وورث عن أمه أناقتها وذوقها الرفيع وكثيرا  من التهور والاندفاع يصل إلى درجة تصنع كثير من الأزمات – سعى كي يتصالح مع تلك الثنائية .

جمع “بشر ” هذا الخليط السحري والمتناقض لكنه يهضمه في نسيج واحد متفرد ليصير شخصية مصرية متعددة الأبعاد .. هكذا أراد “عكاشة ” وبهذا آمن دائما أن الشخصية المصرية هي نتيجة تفاعل بين كل الحضارات التي تماست معها بمستويات مختلفة ليؤكد المفهوم الذي صكه الراحل الكبير “جمال حمدان ” بان مصر هي “سبيكة حضارية ” تفاعلت فيها ثقافات وحضارات متعددة لتصنع شخصية متفردة

لم يكن “بشر ” إيطاليًا بحكم الأم وسنوات النشأة الأولى ولم يكن يشبه أخوته من والده ” خميس ومرشدي وإكرام ” ورغم المحاولات المتواصلة من جانب الطرفين لاجتذاب بشر وتقديم كافة الإغراءات حيث خاله “جيوفاني “عمدة الإيطاليين بالاسكندرية يدفع به نحو عالمهم وأموالهم ومكانتهم الاجتماعية بينما يسعى الأب ” عامر عبد الظاهر  ” إلى حثه على الحياة بينهم من خلال تفويضه بإدارة تجارته

تحتدم المحاولات وتتصارع المصالح لكن “بشر ” ظل منشغلا بالبحث عن نفسه عن روحه المشتتة ورؤيته المرتبكة إلى أن يصل إلى أنه هكذا يكون “مصريا بكل ما يحمل من تعدد وتنوع ..

 أنها نظرية السبيكة كما قلنا وكما أرادها “اسامة ” عند ” بشر عامر عبد الظاهر “

على البدرى .. زمن الأحلام والانكسارات

 حين اندلعت ثورة يوليو 1952 وبدأت خطواتها تتسارع نحو تحقيق الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية كان فى مصر جيل من الشباب  طالما حلم بالجلاء وناضل بأشكال مختلفة من أجل تلك اللحظة

كان ” على سليم البدري ” يعيش مع خالته “أنيسة ” وزوجها “توفيق البدري ” بعد ان رحلت أمه مبكرا وتركه والده “الباشا ” لأنيسه كي تكمل تربيته

كان قرار الباشا “سليم البدري ” لا يخلو من أنانية ورغبة فى التفرغ لطموحاته الجامحة ورضوخا لرغبة زوجته الأولى “نازك السلحدار ” التي ترى فى ” على “تجسيدا لهزيمتها أمام “علية ” بنت “القماش ” – مهنة والدها – فى معركة الاستحواذ على سليم البدري. إذا فلم تكن موافقة الباشا استجابة فقط لرغبة “أنيسة ” الملحة في الاحتفاظ ب “على”

نشأ “على ” فى شوارع الحلمية الأخرى التي تميزت فى تلك المرحلة بالجمع بين المتناقضين فهي سكن الباشوات ورجال المال والسلطة …. تمتلئ  بقصورهم ومنازلهم الفخمة  وعلي أطراف الحى العريق كانت منازل بسطاء الحلمية من العمال والحرفيين  .. أنه التفاوت الطبقي الصارخ الذي كانت تعيشه مصر ويتجلى في حى”الحلمية “

في تلك الأجواء تربى “على البدري ” ذلك الفتى الحالم الرومانسي … يتشبث بالحلم الذى تحقق ويتعلق عقله بصوت “جمال عبد الناصر ” ومبادئ وخطى ثورة يوليو كما يهيم فى عالم “عبد الحليم حافظ ” وهو يخطو فى طريق قصة حبه الكبرى والأهم مع “زهرة سليمان غانم ” التي يجمعها بعلي البدري  -بالإضافة للحب –  ظروف نشأة قاسية ومرتبكة يحلق “على ” في سماوات الحلم – الناصري – ويشتعل قلبه يوماً بعد يوم بحب “زهرة ” .

حتى تعصف هزيمة يونيو 1967 به وتُفقده توازنه كما فعلت بالجميع … وكأنه استيقظ على كابوس الهزيمة منهار القوى منكسر الإرادة … تستهلكه أسئلة بلا إجابة عن سبب ما جرى؟

على المستوى العاطفي تتوالى الانكسارات رغم نبله فيضحى ببعثة تعليمية لاستكمال دراسته العليا من أجل عيون “زهرة ” ورغبتها القوية فى البقاء بمصر حفاظا على مسيرتها التي بدأتها فى عالم الصحافة.

ثم يكتوى “على “بنيران ” الاعتقال وتغيبه السجون سنوات بعيدا عن حبيبته  بسبب انضمامه للتنظيم الطليعي مما يتسبب في اعتقاله في قضية “مراكز القوى الشهيرة “

يخرج “على ” من محنة الاعتقال ليجد كل شيء تغير وتبدد .. حتى القدرة على الحلم لم تعد باستطاعته.

يزداد جرحه عندما تتخلى عنه حبيبته  وتتزوج سرا من رئيسها فى العمل بحثاً عن مكاسب مهنية ولا تكترث ب”على ” الذى يقضى عقوبة إيمانه بأفكار “يوليو ” ومبادئها.

يبدو الانكسار عظيماً بنفس عظمة الأحلام التي حلقت في مخيلته حول العدل والاستقلال والحب الأفلاطوني الطاهر الذى عصفت به المتغيرات العنيفة، تلك المتغيرات التي “جعلت كلا منا يدور حول نفسه 180 درجة .. الكل فقد توازنه ” هكذا برر “على ” مرحلة الانهيار النفسي التي أعقبت أزماته المتتالية

يستيقظ الشاب الحلم – الذي تبددت روحه وانطفأ بريق عينيه ولمعة وجدانه المشتعل بحب الحياة – يستيقظ على رغبة قوية في الانتقام من كل من سرق حلمه لكنه فى حقيقة الأمر ينتقم من نفسه وتاريخه وكل ما آمن به فى الماضي

تشهد شخصية “على “تحولا جذريا وينجذب يمينا بقوة هائلة متوجها نحو قوانين المرحلة بكل سوءاتها ونواقصها يقرر التعامل مع المتغيرات العاصفة واللعب بأدواتها .. إنها أدوات الانفتاح – السداح مداح – على حد وصف أحمد بهاء الدين

يستغل عودة والده إلى مصر وتأسيس شركة كبرى للاستثمار وبسرعة كبيرة يصبح “على ” هو الرجل الأول فيها والمُتحكم في مصيرها … يحقق نجاحا كبيرا على مستوى الربح لكنه نجاح بطعم الهزيمة فقد استخدم كل مفردات السوق الرديئة و التي طالما عارضها في شبابه فلم تعد الرشوة في نظره سوى ” إكرامية ” ولم يعد الإفساد سوى شطارة واللعب بأوراق المرحلة …… أنه الانكسار كما رآه أصدقاء العمر والدرب مثل “ناجى السماحى ” ورفيق المعتقل “جلال شهاب ” . حتى والده الرأسمالي الكبير الذي ظل يحلم بمشروع صناعي حقيقي بعيدا عن أجواء السمسرة والتوكيلات والمشروعات الاستهلاكية التي جنح إليها “على ” .

كل هذا كانت نتيجته ضربة جديدة ل “على ” فقد تعرض لمحنة التحفظ على أمواله من جانب المدعى الاشتراكي وأجهزة الكسب غير المشروع وصار مهددا بالحبس فى قضايا فساد.

نعم فالمناضل القديم الذي قضى سنوات شبابه معتقلا سياسيا أصبح الآن مهددا بالسجن بسبب فساده المالي !!! أي انكسار هذا ؟

رغم كل شيء لم يتمكن على من التخلص من حب “زهرة ” ولم يشف من مرض عشقها رغم ما جرى ….. وكأنه يبحث عن معذبته أو يبحث عن سنوات البراءة في عينيها وبين تفاصيل ذكرياته معها.

“على البدري ” الذي أطل علينا في ملحمة” ليالي الحلمية ” عبر خمسة أجزاء ,

 هو مثال لجيل الأحلام الكبرى والهزائم الكبرى.

جيل “على البدرى “

جيل شب على أحبال صوت “عبد الناصر ” وعاش انتصارات الثورة وكسرته هزيمتها .. جيل لم يحقق الكثير من طموحاته الشخصية أو العامة فسرعان ما انقلبت الموازين بعد رحيل “ناصر ” في 1970 لتعلو أصوات ” الهليبة ” وأثرياء الانفتاح منذ 1975 ولم يعد صوت المعركة عالياً فقد كانت “أكتوبر ” آخر الحروب والسلام مع إسرائيل هو الخيار الاستراتيجي وكل أوراق اللعبة فى يد أمريكا

تغير كل شيء … كل شيء … ولم تعد الأرض ثابتة فقد دارت بسرعة مذهلة أصابت الكثيرين من ذلك الجيل بالدوار وفقدان التوازن وعلى قدر براءة الأحلام كانت قوة  الدوار.

سقطت أمام “على ” كل الأحلام … لكن يظل انكسار حبه لزهرة هو الأشد قسوة ربما لأنه تزامن مع الانكسارات الفكرية والأيدلوجية ولم يجد طوق نجاة ينقذه من الغرق بعد ان تلقى طعنات غدر من حب عمره .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock