إنه عملاق الفن السوداني بلا منازع، لم يكن مجرد فنان، ولكن موسوعة فنية متنقلة؛ حيث جمع بين الغناء والتلحين والتأليف، وهو ما جعل منه واحدا من المواهب النادرة فى تاريخ السودان بلا منازع.. إنه “عبد الكريم الكابلي” الموسيقار والشاعر والمغنى والباحث فى التراث الذى لايوجد بيت واحد في السودان، لم يحزن على فراقه بعد رحيله مؤخرا عن عمر ناهز الـ 90 عاما.
قدر المبدعين أن يتألموا من أجل إسعاد الناس، وهكذا رحل الكابلي بعيدا عن تراب وطنه الذى طالما تغنى به، إذ لفظ أنفاسه الأخيرة فى ولاية “ميتشجان” الأمريكية؛ حيث كان يقيم منذ عدة سنوات مع بقية أفراد أسرته، ورغم أنه قاوم المرض كثيرا إلا أنه ضرب موعدا مع الرحيل بعد مسيرة فنية حافلة، تجاوزت الستين عاما، تذوقت خلالها أجيال من السودانيين حلاوة فنه عبر أروع الألحان وأجمل الكلمات وصوت يفيض عذوبة.
إبداع الكابلي كان عابرا للحدود، حيث لم يقتصر على الداخل السوداني، وإنما امتد إلى العديد من الأقطار العربية، وساعد على ذلك الأغانى الكثيرة التى أنشدها الرجل باللغة العربية الفصحى، بخلاف رصيده الكبير من الأغنيات بالعامية السودانية، التى يحفظها الكثير من أبناء السودان عن ظهر قلب، حيث تحمل إليهم الكثير من ذكريات الماضى الجميل الذى يحنون إليه بين فترة وأخرى.
ثقافة الكابلي الغزيرة ورؤيته الفكرية الخاصة، تنعكس بوضوح فى كل أعماله الفنية؛ لذا فعندما يستمع المرء إليه، فإنه يكون على موعد مع وجبة فنية دسمة، يستوى في ذلك غناؤه من كلماته مع القصائد التي اختار أن يغنيها لشعراء آخرين.. فضلا عن ذلك فإنه لا يمكن لأحد أن يغفل دوره كباحث فى التراث.
لايترك الكابلي أية مناسبة دون أن يعبَّر عن حبه الغامر لوطنه، مهما باعدت بينهما المسافات فهو يحمل السودان فى قلبه، وإن عاش حينا من الدهر في أمريكا، قبل أن يموت على أرضها وفى هذا يقول:
أدور حولك بإحساسي .. ربيع بيغازل امشتول.واشيلك جوّا أنفاسي .. عشان أطفي اشتياقي الحار
وبين طاريني لأ..! ناسي .. لقيت الحيرة فيك تحتار
كأني حِداك ضُل مشتول .. على دروب الزمن بتـــطول
أشوف معناك فى كل زول.. شرب من طعمك المعسول
ودا الخلانى فمغزول. .. قَدُرما يرجى عمرى الحول
كلاما بالغزل مغزول .. ولحنـاً في البعاد موصول
وكيف ما أشيل هواك فصول.. وقلبى برؤيتك مأهول
مسارح صيد.. مهاوي سيول .. شديرات حِنّة فوقا حجول
بَرِق عَبـّادي سوّا الهول .. بصدق أفعالو ما بالقول
ومن القصائد الجميلة التى غناها قصيدة المولد للشاعر محمد المهدى المجذوب وفيها يقول :
صل يا ربي على المدثر
وتجاوز عن ذنوبي
وأعني يا إلهي
بمتاب أكبر
فزماني ولع بالمنكر
بزغت موهبة الكابلي مبكرا حيث بدأ الغناء في الثامنة عشرة، ولكنه ظل مغمورا حتى عام 1960، عندما ابتسم له الحظ من أوسع أبوابه، وضرب موعدا مع الشهرة، حيث كان الرئيس جمال عبد الناصر في زيارة للخرطوم، وعرض عليه بعض أصدقائه أن يغنى فى حضوره ولكنه رفض فى البداية قبل أن يرضخ ويستجيب لضغوطهم. تغنى الكابلي بأنشودة “آسيا وإفريقيا” رائعة الشاعر تاج السر الحسن، والتى لقيت استحسانا واسعا، وقد مثَّل هذا اليوم نقطة تحول رئيسية فى حياة الكابلي الفنية، حيث تألقت موهبته أمام الجميع، بعد أن ظلت لفترة طويلة قاصرة على دائرة معارفه وأصدقائه.
كان معتدا بنفسه مقتنعا بموهبته إلى أقصى مدى، ويكشف ذلك ما حدث فى عام 1967، حيث جاءت أم كلثوم إلى الخرطوم لتقيم حفلتين لصالح المجهود الحربى، بعد نكسة يونيو.. ورفض الكابلى باستماتة جميع محاولات إقناعه بحضور أيٍ من الحفلتين؛ مشترطا أن تحضر إليه أم كلثوم أولا للاستماع إليه. وبالفعل استجابت كوكب الشرق وإمعانا فى التحدى أصر على أن يغنى أمامها ” أراك عصى الدمع” التى برعت فى غنائها وأعجبت أم كلثوم بأدائه، وأصرت على أن تقوم بمصافحته وهو ما أدهشه كثيرا.
وللراحل مجموعة كبيرة من الأغانى من بينها معزوفة لدرويش متجول من كلمات الفيتورى كما غنى أيضا “شذى الزهر” للعقاد ومن أغانيه الشهيرة ” مروى ووسادة يا ملك الكنارى.
تأثر الكابلي شاعرا وملحنا ومغنيا بالتراث السودانى بصورة واضحة، وهو ما بدا مصرا على المحافظة عليه حتى السنوات الأخيرة من عمره، رغم غربته التي طالت والتى لم تمنعه من أن يظل قابضا على جذوره متشبسا بها حتى النفس الأخير.
ولد عبد الكريم الكابلى فى عام 1932 فى بورتسودان وعمل طوال عشرين عاما مفتشا للرى وعمل لعدة سنوات فى السعودية بمجال الترجمة ولكن هذا كله لم يمنعه بعد ذلك من أن يتبوأ مكانه بين كبار أهل الموسيقى والفن فى السودان لسنوات طوال.
حزن السودانيين الكبير اليوم على رحيل الرجل يبدو فى إطار فقدهم لموهبة شاملة لم تتكرر كثيرا وربما لن يكون لها مثيلا فى المستقبل حيث كان الكابلي مميزا كشاعر وملحن ومغنى فى الوقت نفسه لدرجة يحار معها المرء فى تحديد إلى أى من المساحات الفنية ينتمى هذا الفنان الكبير فقد كان وبحق لاعبا ماهرا فى ساحات الفنون الثلاث.