من أكثر المشكلات وأشهرها في عالم الحواسيب، مشكلة الـ “bad sector” وتعني باختصار إصابة القرص الصلب “HDD” بعطب، لا يستطيع معه رؤية بعض الملفات الموجودة عليه، وكأنَّما أصيب القرصُ بعمى جزئي.. تذكرت هذه المشكلة اليوم الموافق الثالث والعشرين من ديسمبر، ذكرى عيد النصر.. وهو يوم عظيم من أيام الله أعزَّ فيه الحقَّ وأهله، وكسر شوكة المعتدين.. ويبدو أنَّ الـ”bad sector” اللعين أصاب ذاكرة مصر أيضا، فلم أجد منذ أعوام طويلة أي إشارة من أي نوع لهذا اليوم العظيم، في إعلامنا الرائد.. ما أقبح هذا العمى حين يصيب الأعين والقلوب بشكل جزئي؛ فترى أياما وتعمى عن أيام.. والأسوأ من ذلك أن عددا لا بأس به ممن يتذكرون اليوم الخالد؛ ما زالوا في ريبة من أمره.. هل انتصرنا حقا أم لم ننتصر؟. إنه لأمر شديد البؤس أن نقع في هذه الذكرى الكريمة بين عميان ومدلسين أو سفهاء يرددون ما لا يفقهون.
لنخرج إذن من دائرة البؤس المكتمل تلك؛ لنستعيد ذكريات أيام مجيدة.. حين استطاع الشعب المصري وقيادته الحرَّة متمثلة في الثائر الشاب الذي لم يكن قد بلغ الأربعين بعد “جمال عبد الناصر”-الصمود أمام عدوان أكبر دولتين استعماريتين -آنذاك- ومعهما دويلة الكيان اللقيطة، ولم يكن ذلك النصر الذي تحقق لمصر بمثابة متغير كبير في مسيرتها، ونقلة نوعية في تاريخها فحسب؛ بل كان نقطة تحوّل كبرى في موازين القوى الدولية.. كان هذا النصر إيذانا بأفول نجم الإمبراطورية البريطانية التي كانت الشمس لا تغيب عنها، لانتشار مستعمراتها في أربعة أنحاء المعمورة.. كما كانت استقالة رئيس وزرائها “أنطوني إيدن” دليلا واضحا على الهزيمة المذلَّة، في حين كان النصر نهاية عِقدٍ فرنسي استطاعت فيها باريس أن تنعم بنتائج انتصار الحلفاء في معارك الحرب الثانية، بعد أن اُحتُلَّت “باريس” من قِبَلِ الألمان للمرة الثانية خلال نحو ربع قرن.. نصر أنهى أوهام المستعمرين؛ ليضعهم أمام حقائق الواقع الذي كان يتشكل بفعل قوى حيَّة جديدة ولدت من رحم سنوات القهر والنهب والخراب تحت وطأة الاحتلال الأوروبي البغيض.
ورغم أن الأسباب المعلنة للعدوان كانت عديدة، ومعظمها يتعلق بإقدام “ناصر” على تأميم قناة السويس، ذلك القرار الذي كان فاصلا بين من يحلمون لمصر بدولة قوية مستقلة، ومن ارتضى لنفسه ولوطنه الهوان؛ تحت تأثير مقولات غثَّة ترتكن إلى الانتظار حتى انتهاء فترة الامتياز في 1968 –إلا أنَّ الأسباب غير المعلنة كانت أكثر؛ أهمها كسر التجربة الثورية في مصر حتى لا تكون مثالا يحتذى في مستعمرات البلدين، كما أنَّ دعم مصر للثورة الجزائرية كان قد تجاوز الحدود، وبدأ في تعميق جراح المحتل في بلد المليون ونصف المليون شهيد؛ معجلا بآذان الاستقلال ورحيل أكثر أنواع الاستعمار إجراما على مر التاريخ عن الجزائر.. مع ربط ذلك بأنَّ قرار التأميم كان لتوفير الأموال اللازمة لبناء السد العالي بعد أن حالت تلك الدول بنفوذها دون تمويل البنك الدولي للمشروع.. كانت تلك الأطراف المتربصة تعلم ما يمكن أن يؤديه بناء السد من تطوير وتحديث وتقدم لمصر الثورة -اعترفوا بعد ذلك بأنه أعظم مشروع تنموي في العالم في القرن العشرين- لذلك حالوا دون توفر إمكانات إنجازه، ثم قدمت الولايات المتحدة عرضا لتمويل المشروع، لكن العرض تضمن شروطًا مهينة، من بينها فرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، ورقابة على مصروفات الحكومة، والاتفاقيات الأجنبية، والديون الخارجية، واشترط ألا تقبل مصر قروضا أخرى، أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، مع الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل في حالات الضرورة.. ولم يكن لرجل أوتي أدنى قدر من الشرف والوطنية أن يقبل بذلك، فما بالنا برجل مثل “عبدالناصر”!.
كان الرجل حريصا على تفادي المواجهة في هذا الظرف الحرج، لكن التحريض ضد مصر كان أوضح من أن تخطئه عين، ولم تخف تلك القوى تخوفها الشديد من حدوث طفرة تنموية في مصر الثورة، وقالها “بن جوريون” رئيس الوزراء الصهيوني للمبعوث الأمريكي، عندما طمأنه الأخير بأنَّ مصر لا يشغلها إلا التنمية.. فأجابه “بن جوريون”: “هذا أسوأ ما كنت أنتظر سماعه”.
بعد ذلك أسرعت الكيانات الثلاثة في الترتيب للعدوان، بدأ الصهاينة بالهجوم البري في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر عام 1956، فقامت بريطانيا وفرنسا بتوجيه إنذار لإسرائيل ومصر بوقف القتال على أن تتواجد قوات بريطانية وفرنسية على جانبي قناة السويس، لكن مصر رفضت الإنذار، فقامت بريطانيا وفرنسا في الخامس من نوفمبر عام 1957 بمهاجمة منطقة القناة في محاولة لتطويق الجيش المصري في سيناء، فقام “عبد الناصر” بإخلاء سيناء فاحتلها الصهاينة على الفور، وانتقلت المعركة إلى بور سعيد حيث قامت الطائرات البريطانية والفرنسية بقصف مدينة بورسعيد.. ومن ثم أنزلت بريطانيا قواتها في مطار الجميل غرب المدينة، كما أنزلت فرنسا قواتها في منطقة الرسوة جنوب بورسعيد.
“لتبدأ بعدها المعركة البرية بين القوات الفرنسية والبريطانية من جهة والجيش المصري ومن خلفه الشعب كله من جهة أخرى، ورغم الصمود البطولي للمصريين إلى أن موازين القوى لم تكن متكافئة.. فتم احتلال بورسعيد في 6 نوفمبر 1956، وفي اليوم التالي تقدّم المعتدون لمسافة خمسة وثلاثين كيلو مترا على امتداد قناة السويس. لم تهدأ مقاومة المصريين لحظة واحدة، وتحولت أيام المعتدين في بورسعيد إلى جحيم حقيقي.. إلى أن تدخَّل الاتحاد السوفييتي مهددا بقصف لندن وباريس إذا لم يتوقف العدوان. كما رأى الأمريكان أن الأمور من الممكن أن تخرج عن السيطرة، لتكون منطقة القناة ميدانا تبدأ منه حرب عالمية جديدة.. ليتم الضغط على المعتدين بإمكانية فرض العقوبات الاقتصادية، بعد استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف العدوان بدءا من 7نوفمبر عام 1956.
رضخت بريطانيا وفرنسا للقرار الأممي وسحبتا قواتهما من بور سعيد في23 ديسمبر عام 1956، ليكون هذا اليوم المجيد يوم عيد للنصر.. نتذكر به كل عام تلك الملحمة الخالدة التي سطرها شعب مصر في بورسعيد بدمائه الزكية.
تلكأ العدو الصهيوني في الانسحاب من سيناء إلى يوم12 مارس عام 1957، بعد التهديد بفرض عقوبات دولية على الكيان اللقيط، كما قبلت مصر أن تضع الأمم المتحدة قوات طوارئ على الحدود بين مصر وفلسطين المحتلة في منطقة شرم الشيخ
يوم عظيم ستحتفظ به الذاكرة الوطنية، وسيتناقله المخلصون الأوفياء للوطن، جيلا بعد جيلا.. أما من عطبت ذاكرتهم بـ “bad sector” التطبيع والمواءمات وأحلام الرخاء المزعوم التي روّج لها نظام الرئيس السادات عشية توقيع المعاهدة مع الصهاينة- فسينتهون إلى الخرف في متاهة التبرير، وسيلتقون هناك بأمثالهم من منكري الانتصار على العدوان والمشككين في نصر أكتوبر المجيد، والذين كانوا ينتظرون حالمين أن تسلمنا بريطانيا قناة السويس بعد انتهاء فترة الامتياز.. وما أكثرهم وما أكثر الحمقى ضحايا الـ “”bad sector” في زماننا.