في الحديث عن مفهوم “ما بعد الكورونيالية” تجدر الإشارة إلى ما كتبه المفكر الراحل الدكتور شاكر عبد الحميد (1952- 2021) عقب ظهور جائحة كورونا في مقال هام بعنوان “ما بعد الكورونيالية: أو ذلك العدم الذي يقف على الأبواب” (نُشر بموقع “أصوات أون لاين” بتاريخ 17 أبريل 2020)[1]، حيث تفرَّد دكتور شاكر بنحت هذا المصطلح، وذلك على عكس المعتاد من المصطلحات المستوردة غربيا في الكثير من كتاباتنا العربية. كان هذا المقال على رأس المحاولات الأولى عربيا وعالميا التي تستشرف نمط الحياة والآثار الاجتماعية والاقتصادية الدائمة عقب انتهاء الظروف الطارئة والاستثنائية لجائحة الكورونا، كما استعرض جملة من الخصائص والمحددات الاجتماعية التي قد تتسم بها تلك المرحلة الجديدة.
وعن مفهوم “النظام العالمي الجديد” فإنَّ عصر ما بعد الجائحة من المتوقع أن يُشكِّل نمطا مختلفا من الإدارة السياسية والاقتصادية للعالم، وهو الأمر المعهود في كل الأحداث الراديكالية التي يشهدها مسرح السياسة العالمية، وتعيد تشكيله من جديد.
طرح مفهوم النظام العالمي الجديد في هذا المقال لا يعني –بطبيعة الحال– حداثته في هذا السياق، فقد كان الرئيس الأمريكي ” وودرو ويلسن” (1856 – 1924) من أوائل الزعماء السياسيين الذي صاغوا هذا المفهوم في اقتراح فكرة “عصبة الأمم” عقب الحرب العالمية الأولى ومن بعده الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” (1882 – 1945) عندما أتى بفكرة منظمة الأمم المتحدة عام 1945، وتطوَّر هذا المصطلح في المجال الأكاديمي؛ وصولا إلى اعتماده في الفكر السياسي بعد عقودٍ، واستخدمه زعماء دوليين في فترات زمنية شديدة الحساسية، مثلما فعل رئيس الاتحاد السوفيتي “سابقا” “ميخائل جورباتشوف” عام 1989، وأعقبه الرئيس الأمريكي “جورج بوش” “الأب” (1924 – 2018) عقب انتهاء الحرب الباردة وإبان انطلاق حرب تحرير الكويت عام 1991.[2]
متغيرات سياسية عالمية
مثَّلت الكورونا اختبارا قويا للأنظمة السياسية المختلفة في العالم، فصعد نجم بعضها وهوى الآخر، وكانت الأنظمة الشعبوية صاحبة الحظ الأكبر من الرسوب في هذا الاختبار، فكشفت الجائحة عن فشل تلك الأنظمة في مواجهة هذه الأزمة الوبائية العاتية، بالرغم من الخطاب الشعبوي الرنان الذي كان يهوِّن من آثارها ومن تهديداتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ورأى محللون أنَّ خسارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” للانتخابات الرئاسية الأخيرة خير دليل على ذلك. كذلك الأحزاب والجماعات السياسية ذات التوجُّه الشعبوي التي أعلنت عدم التزامها بإجراءات الإغلاق والإجراءات الصحية المشددة في الأماكن العامة بين الأفراد –نالها قسط من التهكم والسخرية بسبب مواقفها المتهورة تلك وتعريض حياة آلاف المواطنين للخطر.
أكدت الكورونا على إمكانية وجود تعاون دولي حقيقي في حل الكثير من المعضلات السياسية والصراعات التي يشهدها المجتمع الدولي، واتضح ذلك خلال التعاون في عمليات إنتاج اللقاحات والمستلزمات الطبية المخصصة لمجابهة كورونا وتوزيعها مجانا أو بأسعار مخفضة للدول غير القادرة والفقيرة. قد يرى البعض أنَّ ذلك التعاون قد تم بدافع براجماتي بحت وغير إنساني للتخفيف من أثر الوباء على الدول المتقدمة وعدم استطالة أمد الركود الاقتصادي الكبير الذي يشهده العالم، لكن يظل ذلك التعاون ملهم لإمكانية تحقيقه في مواضع أخرى لا تقل إنسانية عن مواجهة هذا الوباء القاتل.
الطاقة النظيفة ودينامية جديدة للاقتصاد العالمي
زادت الكورونا –كحالة مباغتة ومهددة– من المخاوف المتعلقة بالتغيرات المناخية التي يشهدها كوكب الأرض، فالمصير –في الحالتين– مأساوي حال عدم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة، وهو الأمر الذي دفع بشكل قوي وفوري دولا كثيرة في مقدمتها قوى عظمى إلى تعظيم الاستثمار في البحث العلمي المرتبط بمصادر الطاقة النظيفة والآمنة. ومن أكثر الأمثلة شيوعا على ذلك، زيادة اهتمام الكثير من كبريات الشركات المصنِّعة للمركبات بإنتاج نماذج متنوعة من السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية بديلا عن الوقود التقليدي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شرعت بعض المؤسسات والشركات في عدد من الدول الصناعية الكبرى في تحويل مصانعها إلى مصانع صديقة للبيئة تعمل بالطاقة النظيفة، مما سيقلل من الانبعاثات الكربونية المسببة للتغيرات المناخية الحادة التي يشهدها كوكبنا الأخضر.
المتأمل في التوجهات العالمية الجديدة في مجال الطاقة؛ سيدرك أنَّه في المستقبل القريب سيتم تحطيم الأسس والنظريات الاقتصادية التقليدية المرتبطة بالنفط وتأثيره في الاقتصاد العالمي، ولن تستمر–مستقبلا– التأثيرات القوية التي يُشكِّلها النفط في البورصات العالمية (ارتفاع وانخفاض سعر برميل النفط)، بل سيتجه العالم طوعا إلى نظام جديد من الطاقة النظيفة ذاتية الإنتاج بعيدا عن الوقود الأحفوري الضار بالبيئة.
أنماط مختلفة للتعليم وسوق العمل
“نحن في طريقنا لامتلاك الآلاف من المستخدمين، وربما أكثر من 500 ألف مستخدم في غضون 12 شهرا” بهذه العبارات أعلن الملياردير الكندي الأمريكي “إيلون ماسك” المدير التنفيذي لشركة “Space X” والمصمم الأول فيها، أنَّه خلال عام سيزداد عدد مستخدمي شبكته “Starlink” للإنترنت الفضائي بالآلاف، وجاءت تلك التصريحات خلال مشاركة ماسك في نسخة مصغرة من أكبر معرض للهواتف في العالم في مدينة برشلونة الإسبانية في يونيو 2021.[3] ما يعني أنَّه خلال سنوات معدودة؛ لن يصبح استخدام شبكات الإنترنت بكفاءة عالية مشكلة تقليدية للأفراد والدول التي لا تتمتع بتلك الخدمات، أو التي تعاني من رداءتها وضعفها.
مما لا شك فيه أنَّ جائحة الكورونا قد أثَّرت بقوة على الطبيعة التقليدية لبيئة العمل في كل أنحاء العالم، وزادت الاعتمادية على شبكات الإنترنت في التواصل وعقد المؤتمرات والندوات وتنفيذ الخدمات اليومية التي يحتاجها مواطني أي دولة. إضافة إلى تغيُّر أنماط التسوق بقوة تجاه التسوق الإلكتروني، ما عزَّز من عائدات شركات التسوق الإلكتروني الكبرى مثل “أمازون” الأمريكية و”علي بابا” الصينية واللتان حققتا أرباحا مليارية ضخمة خلال فترات الإغلاق المشددة التي قامت بها معظم دول العالم، وبلغت مبيعات “أمازون” وحدها خلال الربع الأول من 2021، والذي تزامن مع بدء استشراء الوباء في العالم ما يقارب الـ 100 مليار دولار. والحال بالمثل في التعليم، فلم يعد التعلم عن بعد استثناءً أو شكلا غير متداول مقارنة بنظيره التقليدي في المدارس والجامعات، بل اتجهت كل المؤسسات التعليمية مجبرةً إلى نظام التعلم عن بعد، وشرعت بعض الدول في مناقشة إمكانية تعميم تلك الفكرة على نطاق أكثر اتساعا حتى وإن انتهت الإجراءات الاستثنائية التي يمر بها العالم بسبب الجائحة تزامنا مع التطور الرقمي الهائل الذي نشهده حاليا.
تمثل السطور السابقة محاولة استشرافية لبعض المتغيرات التي تم رصد إرهاصاتها خلال عامين منذ انطلاق الجائحة، ومن المتوقع أن تزداد تلك المتغيرات وتختلف أنماطها خلال الأعوام القادمة، وستتضح معالم النظام العالمي الجديد شيئا فشيئا.
مراجع:
[1] د. شاكر عبد الحميد، ما بعد الكورونيالية: أو ذلك العدم الذي يقف على الأبواب (1-2(، أصوات أون لاين، متاح على الرابط التالي:
[2] باسمة فاروق السيد، النظام العالمي الجديد – دراسة نظرية، المجلة العملية للدراسات التجارية والبيئية، المجلد 8، العدد الثاني، الربيع 2017، ص 196، الدراسة متاحة على الرابط التالي:
https://jces.journals.ekb.eg/article_54752_b3f0ec64bd152b1d728523bf1decbe94.pdf
[3] إيلون ماسك يكشف عن عدد مستخدمي “ستارلينك”.. رقم قياسي، العين الإخبارية، تقرير منشور بتاريخ 29 يونيو 2021، متاح على الرابط التالي:
https://al-ain.com/article/elon-musk-reveals-the-number-of-starlink-use
