بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع مصر 360
كثيرا ما تتجه فكرة المصالحة الوطنية إلي التوصل لتسويات رشيدة لصراعات بين مكونات طائفية أو عرقية لوطن ما رواندا بعد مذابح الهوتو والتوتسي، أو جنوب أفريقيا بعد إنهاء نظام الفصل العنصري، أو بين الدولة وفصيل متمرد عليها بعد انتهاء الحرب الأهلية بينهما -تجربة المصالحة الوطنية في كولومبيا بين الرئيس سانتوس والمعارضة بعد أكثر من أربعين سنة من الصراع المسلح-.
ولكن لا يعني واقع أن مصر الدولة النهرية المركزية ذات السبيكة الواحدة لا تواجه نسبيا هذه المشكلات.. لا يعني أبدا أنها ليست في حاجة ملحة إلى مصالحة وطنية بين تياراتها، وإلى إعادة الاعتبار للمدرسة العلمية المصرية لكتابة التاريخ التي أوجدت بموضوعيتها قواسما مشتركة لو تم تطويرها ستكون كفيلة ببدء عملية المصالحة المذكورة.
لماذا هذه المصالحة هي واجب الوقت الآن.. الآن وليس غدا؟.. ببساطة لأنه لا أمل للمهمتين التاريخيتين المطروحتين على الثقافة السياسية المصرية وهما العمل على إنجاز تحول ديمقراطي حقيقي وتجديد أصيل وليس هزليا للفكر الديني دون توصل هذه التيارات صاحبة المصلحة في كليهما إلى وثيقة المشتركات الوطنية فيما بينهم.
إذ أثبتت كل تجارب النضال المصري الحديث من أجل الديمقراطية أنها مهمة أكبر بكثير من السلطة السياسية حتى لو منحتها – ولم توجد بعد هذه السلطة – وأنها مهمة قوى المجتمع الحية بمثقفيه وتياراته السياسية ومنابر فكره وأحزابه وأجياله الشابة صاحب المصلحة في المستقبل. وإن التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا ولا يزال ليست كافية دون التعلم من دروس الفشل في هذه التجارب وعلى رأسها أن انقسام التيارات المدنية وسيطرة الإسلام السياسي والسلفي على الفضاء العام للجماهير كان أحد الأسباب التي أدت إلى الالتفاف حول الديمقراطية مرة بالتحالف مع الإسلام الحركي ومرة باتخاذه “بعبعا” وذريعة لعدم الاستجابة للمطالب الديمقراطية.
تحتاج مصر إلى مصالحة تقوم على فكرة الوطنية المصرية، أو على الأصح على فكرة أن الحركة الوطنية المصرية هي حركة واحدة بموجات متعاقبة تسعى كل واحدة منها لتحقيق ما أخفقت فيه المرحلة أو الثورة السابقة عليها في إطار دولة وطنية مصرية ذات أفق عربي وأفريقي وإسلامي. وأنها كانت حلقات متكاملة وليست متعادية وأن جميعها بُنيت على سابقتها وحاولت الإفادة من خبرات تجاربها وعدم الوقوع فيها.
وهي أسس لا يتفق عليها سوى التيارات المدنية الثلاث وهي التيار القومي الناصري، والتيار الليبرالي الوطني، والتيار الماركسي.
أما السبب في عدم اتفاق تيار الإسلام السياسي مع هذا المشروع الوطني فهو واضح وضوح الشمس. وهو أن هذا التيار منذ تأسيسه الحركي على يد حسن البنا عادى بشدة فكرة هذا المشروع في إطار الدولة الوطنية، باعتبار أنهما نتاج الحضارة الغربية الغازية التي هدمت دولة الخلافة الإسلامية، ويسعى هذا التيار لاستعادتها.
لقد تسببت الحروب الأهلية بين هذه التيارات الثلاث في تشتت قوى الاستنارة والحداثة والتقدم، وتقوية شعبية تيار الإسلام السياسي -القوي أصلا- بسبب استغلاله الحصري للدين وهو أعز ما عند المصريين.
ولقد حملت هذه الحروب -التي انتقلت رحاها بصخب أكثر، ومنطق أقل إلى الفضاء الافتراضي- عدم نضج سياسي وتعصب فكري وانحياز لمرحلة معينة من التاريخ المصري الحديث من عرابي إلى الآن.
إذ أثبتت الحوادث التاريخية وتواصل مراحل وأجيال الحركة الوطنية أنها كانت تحتوي جميعها على كثير من الشطط وقليل من الإنصاف.
لا نتحدث في ضرورة المصالحة عن عملية ستبدأ من فراغ. بل عن عملية أزاحت العديد من صخور العداوة الإيدلوجية والسياسية وأقامت رؤوس جسور تنتظر أن تصبح جسورا كاملة للحوار، وللاختلاف دون طمس مرحلة لمرحلة أو زعيم وطني لزعيم آخر.
هذه العملية جرت وشملت ثلاثة عوامل كبرى هي:
أولا: إعادة الاعتبار والتقدير المتبادلة التي قامت بها رموز مهمة من التيارات الثلاثة لمراحل وزعامات بدا فيها بوضوح اعتدال ميزان الحكم نسبيا. وتكشف فيها كثير من الاحترام إلى فكرة أنها كمراحل وزعامات وطنية كانت في جوهرها مراحل وزعامات مكملة لبعضها البعض استأنفت كل مرحلة أو ثورة أو انتفاضة ما أخفقت فيه سابقتها.
وسنقدم في الجزء الثاني من هذا المقال نماذجا على هذه المراجعات المنصفة التي أجرتها أو أبدتها بشكل جماعي أو فردي رموز لهذه التيارات في العقود الأربعة الأخيرة.
ثانيا: تلقت كل هذه التيارات صدمات وهزات كبرى في نصف القرن الأخير بعضها كان على المستوى الوطني، وبعضها الآخر كان على المستوى الدولي، ولكنها كلها دفعتها لتطوير قناعاتها الفكرية نحو ما يمكن وصفه بقواسم سياسية متقاربة لا تلغي التمايز والصراع الفكري فيما بينها ولكن تخفف من “الدوجما العقائدية”:
- هزيمة تجارب التحرر الوطني والتنمية المستقلة والتحول الاشتراكي:
سواء في مصر ودول آسيوية وأفريقية وأميريكية لاتينية التي تلقت ضربات موجعة علي يد الثورات المضادة بسبب غياب الديمقراطية عن مشروعها كانت لتكون كفيلة بترك مؤسسات شعبية تدافع عنها وعن منجزها الاجتماعي في الداخل والاستقلالية في الخارج بعد وفاة قائدها مثل ناصر أو الانقلاب عليه مثل سوكارنو.. إلخ.
- انهيار الاتحاد السوفييتي: كان انهيار الاتحاد السوفيتي نقطة تحول كبرى في النظام الدولي، إذ عُد ليس فقط بمثابة شهادة وفاة للمعسكر الشرقي بل شهادة وفاة للنظام الاشتراكي ووصل البعض إلى أنه نهاية التاريخ، تختفي فيه الفكرة الاشتراكية إلي الأبد وتنتصر وتسود فيه الرأسمالية كفكرة ونظام إلي الأبد. دفع ذلك اليسار في العالم كله بقسميه الماركسي أو اليساري غير الماركسي إلي مراجعة تجربة الاتحاد السوفيتي وأسباب سقوطه وعلى رأسها غياب الديمقراطية والشفافية وآليات المحاسبة وسيادة البيروقراطية والجمود الإيدلوجي وترهل النظام بسبب عدم تجديد شبابه سواء الجيلي أو الفكري. وقادته هذه المراجعة إلي الاتجاه نحو قبول أو اقتراح صور متقدمة من الديمقراطية الاجتماعية تتجاوز النظام الشمولي وديكتاتورية الطبقة في الصيغة السوفيتية المنهارة.
على أنه من الضروري القول إن العاملين السابقين أثرا بصورة أكبر علي مراجعات اليسار الماركسي والناصري لأفكارهما. وبالتالي زاد من قوة الاتجاه عندهما إلي مراجعة وإنصاف التيار الليبرالي وأفكاره وزعمائه ومراحله المهمة في النضال المصري الحديث.
- اتضاح قسوة الرأسمالية والنيو – ليبرالية المتوحشة شديدة الاستغلال على الفقراء وعلى استقرار الاقتصاد العالمي، سواء بما أنتجه اكتساحها للعالم الغربي ثم دول العالم الثالث منذ تبني ريجان وتاتشر لها من ميل مخيف لتركيز الثروة في نحو أقل من 5% من السكان وتقليص الطبقة الوسطى وزيادة إفقار الفقراء ونمو القطاع المالي غير المنتج علي حساب القطاعات الإنتاجية حتى وصل العالم إلى الأزمة المالية العالمية المخيفة 2008 بعد انهيار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة. ولكن هذا العامل كدافع للمراجعة الفكرية والترفق في الأحكام القاسية علي التيارات المدنية الأخرى إنما أثر بصورة أكبر على التيار الليبرالي الوطني المصري تيار خلفاء لطفي السيد وطه حسين ونجيب محفوظ في الفكر والإبداع، وتيار سعد زغلول والنحاس ومكرم عبيد في السياسة وتيار طلعت حرب ومحمد ياسين في الصناعة والاقتصاد. إذ أن هذا التيار حمل في جيناته تاريخيا – إضافة إلى الإيمان بالنظام التعددي الديمقراطي- ميزتين هامتين، الأولى: هي الإيمان المطلق بالاستقلال الوطني، والثانية: هي العطف على الفقراء والانحياز نحو صورة معتدلة من العدالة الاجتماعية قريبة من الفابية البريطانية.
لهذا أكاد أفرق بينه وبين تيار ليبرالي ظهر بعد الانفتاح الاقتصادي في مصر 1974 عموما وبعد معاهدة السلام مع إسرائيل خصوصا، هَدَفَ فقط إلى تكوين قاعدة اجتماعية لطبقته ومكاسبه الحرام التي تحققت من الارتباط بالرأسمالية العالمية ولا تمثل قضايا استقلال السياسة الخارجية والعدالة الاجتماعية واستمرار قيمة مصر في إقليمها أولوية ما بالنسبة لهذا التيار.
تسببت هذه العوامل المذكورة في إنتاج ما أسميه بـ”رؤوس الجسور” بين التيارات الثلاثة، إذ تغيرت أو علي الأصح تطورت القناعات الفكرية لكل التيارات بدون استثناء، فالناصريون باتوا يؤمنون أنه لا اشتراكية ستعيش بدون ديمقراطية، وأن الديمقراطية الاجتماعية لا تُغني عن الديمقراطية السياسية، وأصبح التيار الرئيسي من الماركسيين يؤمن بأنه لا أمل في مصر عادلة وتقدمية دون دور قياديي لها في إطار عربي أوسع تكون فيه فلسطين قضية مركزية، والليبراليون أيضا باتوا يتحدثون عن الديمقراطية الاجتماعية ودولة الرفاه أو في أقله اقتصاد السوق الاجتماعي في مواجهة النيوليبرالية المتوحشة.
ثالثا: الخبرة المشتركة للعمل السياسي الجماعي بين التيارات الثلاثة خاصة في عهد مبارك: هذا هو العنصر الأكثر حسما، لأنه كان نتاج الواقع والتجارب المشتركة للعمل بين هذه التيارات على الأرض في مرحلة ما قبل 25 يناير 2011، والتي استمرت حتى 30 يونيو 2013 في مواجهة الإخوان وحلفائهم من سلفيين متشددين وجهاديين سابقين.
هذه الخبرة التي راكمت عملية بناء متدرج للثقة وتخفيفا لحواجز الأحكام التاريخية القاسية بدأت في مواجهة تدهور آداء نظام مبارك علي كل المستويات والذي نقل هذه التيارات تدريجيا كل علي حدة ثم مع بعضهم البعض في التنسيق والسعي لإصلاحه في البداية ثم وبعد تبلور مشروع التوريث منذ ٢٠٠٥ في السعي لتغييره كله في النهاية.
هذه الخبرة عبرت عنها وثائق ذات طابع سياسي لجبهات وطنية مختلفة قاطعها الإخوان أو انضموا إليها متأخرين وبدون حماس من «كفاية» إلي «الجمعية الوطنية للتغيير» ..ألخ ، وحملت نقاط اتفاق مشتركة عبرت بشكل لا لبس فيه عن التطور الذي حدث في إدراك كل التيارات أن هناك ضرورة ملحة لإعادة قراءة التاريخ بإنصاف موضوعي وواقعي أكبر وتحيز إيدلوجي ونفسي أقل ومن ثم فتح الطريق إلي مراجعات بهدف الوصول لصياغة مشروع نهضوي مصري.
وكانت شعارات ثورة ٢٥ يناير الجامعة بين شعارات اليسار (الناصري والماركسي) في الخبز والعدالة الاجتماعية، وشعارات التيار الليبرالي الوطني في الحرية والكرامة الإنسانية إعلانا عن الإطار الجامع لهذا المشروع الذي مازال في حاجة كبيرة لكتابة كل بنوده في إطار هذه الدعوة لمصالحة وطنية مع تاريخنا الحديث أو بالتيارات الثلاثة المدنية التي أفرزها.
وللحديث بقية في الجزء الثاني من المقال..