لا تحلو ليالي رمضان العامرة؛ إلا في رحاب الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وغيرها من مساجد مصر الشهيرة، حيث مقامات وأضرحة آل البيت، وأولياء الله الصالحين والتي تحظى بقدر كبير من تبجيل المصريين منذ القدم؛ حيث يتوجهون لزيارتها طلبا للبركة والمدد والعون.
منذ الوهلة الأولى.. يمكن للمرء أن يلحظ تلك الحالة من الهيام، التي تبدو بوضوح شديد على المصريين من مختلف الطبقات، وهم يتدافعون في طوابير صوب أضرحة آل البيت وأولياء الله بعد تناول الإفطار؛ حيث يبتهل كل منهم إلى الله في رحابها بكل ما يَعِنُّ له، حيث تسيل الدموع على الخدود معلنة عن خلاص الصدور من جبال من الهموم كانت تئن تحت وطأتها.
حالة التعلق التي تسيطر على قطاعات واسعة من المصريين؛ بآل البيت وأولياء الله الصالحين، تتجلي بشكل واضح خلال شهر رمضان، الذي تكثر فيه الخطا إليهم، وهو ما يفسر حالة الزحام الشديد الذى تشهده القاهرة طوال هذا الشهر الكريم؛ خاصة بمحيط مساجد الحسين والسيدة زينب، والسيدة نفيسة والسيدة عائشة وشارع الأشرف، حيث يشعر الكثيرون هنا بقدر أكبر من الروحانية، عندما تقودهم خطاهم إلى هذه المساجد التي تضم عددا من أشهر أضرحة آل البيت في مصر.
يجسد الزحف على الاحتفالات السنوية، التي تقام بمحيط هذه المساجد، والمعروفة باسم الموالد؛ حقيقة هيام المصريين بآل البيت وأولياء الله الصالحين؛ حيث يتوافدون عليها في هذه المناسبة الاحتفالية من كل شبر في أرض مصر، رجالا ونساء وشيوخا وشبابا لا يجمع بينهم سوى شيء واحد، هو الرغبة القوية في أن ينعموا بالقليل من لحظات السكينة والذكر في رحابها.
“مدد يا أم هاشم.. مدد يا سيدنا الحسين.. مدد يا ستنا نفيسة.. نظرة ياست” عبارات تلهج بها ألسنة الكثير من المصريين، جيلا وراء جيل وهم يقفون بإجلال شديد أمام أضرحة آل بيت الله، متخففين من كل ما يثقل ظهورهم، ويقض مضاجعهم حيث ينعمون بالسكينة في أروع صورها.
الخلاص من عذابات الجسد؛ عبر تصوف الروح لم يعد قاصرا اليوم على العامة فقط، حيث امتد إلى قطاعات واسعة من الشباب والنخب، وهو ما نلحظه في التداول الواسع للمقولات الخاصة بهم على مواقع التواصل، حتي لم تعد صفحات الكثيرين تخلو من عبارات أقطاب مثل جلال الدين الرومي، وفي السياق ذاته يمكن أن نفهم سر وجود عدد كبير من الكتب والأعمال الأدبية التي تتحدث عن الصوفية أو تستلهم أفكارها من بينها على سبيل المثال “لاتسقني وحدي” لسعد مكاوي و”درب الأربعين” لماجد شيحة و”روح” لرشا زيدان و”بحار الحب عند الصوفية” لأحمد بهجت و”نقطة النور” لبهاء طاهر.
ويذهب بعض المؤرخين، إلى أن مصر استمدت بالأساس اسم “المحروسة” من كثرة أضرحة أولياء الله الصالحين المنتشرة في مختلف أرجائها، والتي تشير بعض التقديرات إلى أنها تبلغ نحو ستة آلاف ضريح ومقام تقريبا.
من الناحية التاريخية تعود الكثير من أضرحة آل البيت المقامة في مصر إلى عهد الدولة الفاطمية، حين أنشئت القباب على هذه القبور، كما زينت محاريبها بكتابات ونقوشٍ كوفية جميلة، كما تميزت الأبواب والمقصورات والمنابر التي حوتها المساجد التي توجد بها هذه الأضرحة بالتنوع الشديد.
شارع “الأشرف” الواقع على بعد خطوات قليلة من مسجد السيدة نفيسة يعد أحد المقرات الرئيسية لدولة أولياء الله الصالحين في مصر؛ لذا فإنه يحظى بمنزلة كبيرة في قلوب المصريين، دفعتهم إلى إطلاق عدد من الألقاب عليه، من بينها مجمع الأولياء وبقيع مصر، ولهذا السبب فإن زياراتهم تتواصل له طوال العام، حيث يقفون بإجلال شديد أمام الأضرحة والمقامات للوفاء بنذورهم والدعاء بفك الكرب وقضاء الحاجة، وفي حضرته تقام العديد من الاحتفالات الصوفية.
ويستمد الشارع اسمه من السلطان الأشرف خليل بن السلطان المنصور قلاوون، الذي يعود لعصر الدولة المملوكية بينما يذهب رأى آخر إلى أن سر التسمية يعود إلى العدد الكبير من مقامات وأضرحة آل البيت الموزعة بين جنبات الشارع.
ومن بين الأضرحة الموجودة بالشارع، مقام ابن سيرين صاحب كتاب “تفسير الأحلام” ويرجع نسبه إلى آل البيت، كما يضم أيضا مقام سيدى علي الجعفري –رضى الله عنه– وهو ابن جعفر الصادق بن سيدى محمد الباقر بن على زين العابدين بن مولانا سيدنا الحسين، وبهذا يرجع نسبه إلى بيت على بن أبى طالب، وشقيق السيدة عائشة التى يوجد مسجدها بالميدان ويضم أيضا مقام السيدة عاتكة –رضى الله عنها– وهى بنت عمرو بن نفيل القرشى، كما يضم مقام السيدة رقية بنت الإمام على الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق .
من الناحية التاريخية.. شهدت الخريطة الصوفية المصرية تطورات متعددة؛ منذ أن ظهرت في صورتها الأولى في القرنين الثالث والرابع من الهجرة؛ وتعد فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين المرحلة الأهم في مسارها، حيث شهدت خلالها بلورة وتثبيت لهيكلها التنظيمي، وأصبحت أكثر انتشارا وقبولا في المجتمع المصري، وذلك بحسب تقرير بعنوان “خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها في مصر” لمركز الأهرام للدراسات السياسية.
ويضيف “ظهرت الطرق الصوفية في صورتها الأولى في القرنين الثالث والرابع من الهجرة، وأصبحت كلمة طريقة في هذين القرنين تشير إلى مجموعة الآداب والأخلاق التي تتمسك بها طائفة الصوفية، وأوائل الصوفية كانوا يستخدمون إلى جانب اصطلاحي الطريق والطريقة اصطلاح السلوك، أي السير في الطريق، وهذه الاصطلاحات كلها تعبر عندهم عن الجانب السلوكي الأخلاقي من التصوف الذي يتمثل في تصور الطريق إلى الله؛ مكونًا من عدة مراحل هي: المقامات والأحوال، فالمقامات كالتوبة والصبر والرضا واليقين والمحبة والتوكل، والأحوال كالقبض والبسط والفناء والهيبة، وهذه كلها فضائل وأحوال نفسية وأخلاقية تأتي ثمرة مجاهدة النفس، يترقى فيها السالك للطريق حتى يصل إلى مقام التوحيد أو المعرفة بالله وهو آخر مقامات الطريق”.