لقد التحق الشاعر “محمود حسن إسماعيل”، الذي تحل في هذه الأيام ذكرى وفاته الخامسة والأربعين، للعمل بالإذاعة المصرية منذ عام 1944، وتدرج في عمله بها إلى أن وصل إلى منصب مدير عام البرامج الثقافية والدينية، ورئيس لجنة النصوص بالإذاعة، هذا بالإضافة إلى كونه مستشارًا ثقافيًّا بها. كما إنه قام بإنشاء محطة إذاعة القرآن الكريم، وكذلك جمع تسجيلات القارئ الشيخ “محمد رفعت” وحفظها. ولقد اختير عضوًا بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب منذ تكوينها، بالإضافة إلى تعيينه بمجمع اللغة العربية منذ عام 1937.
ولقد أصدر ديوانه الشعري الأول “أغاني الكوخ” عام 1935، وهو ما زال طالبًا في دار العلوم، وبعد ذلك بعامين أصدر ديوانه الثاني “هكذا أغني” ثم في عام 1946، أصدر ديوانه الثالث “الملك فاروق” الذي برغم ما يحويه من مدح كبير للملك إلا إنه قد طرح قضايا الفلاح ومعاناته، شأنه شأن الديوانين السابقين. وبالقطع مُنِع نشر هذا الديوان بعد ثورة 1952م وانتهاء حكم الأسرة العلوية في مصر.
وفي ديوانه التاسع “صلاة ورفض” الصادر عام 1970، تابع الشاعر “محمود حسن إسماعيل” قصائده عن فلسطين مثل قصيدة “القدس تتكلم” وقصيدة “المسجد الصابر” وقصيدة “الآذان الذبيح” وقصيدة “وجئت أصلي”.
قصيدة وحدث:
لقد كانت قصيدة “وجئت أصلي” مرتبطة بحادث إحراق المسجد الأقصى عام 1969، والذي تأثر به بشدة الشاعر “محمود حسن إسماعيل” مثلما فزع منه العالم الإسلامي آنذاك.
فتزامنًا مع مرور اثنين وسبعين عامًا على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول للمنظمة الصهيونية العالمية بزعامة “تيودور هرتزل” في مدينة بازل بسويسرا في الفترة من 29 إلى 31 أغسطس عام 1897، والذي كان هدفه تنفيذ البرنامج الصهيوني الذي ينص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين تكون له شرعية دولية ويحظى بتأييد عالمي، قام سائح أسترالي مسيحي يدعى “دنيس مايكل روهان”، يتبع كنيسة الرب العالمية (وهي كنيسة مسيحية إنجيلية) بإشعال النيران في المسجد الأقصى يوم 21 أغسطس عام 1969، وذلك كي يتمكن يهود إسرائيل من إعادة بناء الهيكل وفقًا لما يعتقده بعض اليهود والمسيحيين من أن المسجد الأقصى يقع فوق أنقاض هيكل سليمان، ما يُسرع من المجيء الثاني للمسيح المخلص كي يحكم العالم لمدة ألف عام.
ولقد أسفرت محاولة إحراق المسجد الأقصى والذي شب في الجناح الشرقي للجامع القبلي عن التهام النيران لكامل محتوياته بما في ذلك منبره الأثري المعروف بمنبر صلاح الدين والذي أمر ببنائه الملك العادل نور الدين محمود زنكي عام 563هـ/ 1168م. كما أضر الحريق بقبة الجامع الأثرية والمصنوعة من الفضة الخالصة، وبالقبة الخشبية الداخلية وزخارفها الجصية الملونة والمذهبة، وبمحراب الجامع المصنوع من الرخام، بالإضافة إلى مسجد عمر، ومحراب زكريا الذي يقع بجوار الباب الشرقي.
ومثلما عمت المظاهرات في سائر الأنحاء احتجاجًا على حريق المسجد الأقصى آنذاك، فقد انعقد أول مؤتمر قمة إسلامي في الرباط بالمغرب، وأنشئت منظمة التعاون الإسلامي التي ترجع فكرة إنشائها إلى الملك فيصل بن عبد العزيز، والتي تهدف إلى الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين المتمثلة في القدس ومقدساتها الإسلامية. وبالرغم من مرور ما يزيد على خمسين عامًا على هذه الحادثة دون أي توقف عن انتهاك حرمة الأقصى أو الانسحاب منه بعد تقسيمه بين اليهود والمسلمين، إلا إننا نشهد الآن حالة من الصمت العام تجاه أي تدنيس للأقصى أو قتل للمرابطين المدافعين عنه.
فلعلنا في هذه الأيام الرمضانية يجرفنا الحنين من جديد إلى مطالعة أبيات الشاعر الراحل “محمود حسن إسماعيل” في قصيدته “وجئت أصلي” والتي تذكرنا بها ذكرى وفاته، فإما أن نرددها فرادى على استحياء، أو نهتف بها جميعًا بكل عنفوان وكبرياء!
وجئت أصلي
ورغم اندلاع الدجى كالبراكين حولي
ورغم الأعاصير ترمي خطاها بسفحي وجرحي
وساحات هولي
أتيت أصلي
***
ورغم احتراق الدروب
ونهش الخطوب لحبات قلبي ورملي
أتيت أصلي
***
ورغم الرزايا … وتجوالها في خميلي وأيكي
وعشبي وسهلي
دهست السدود
ودست القيود
وجزت المدود.. وجئت أصلي..
***
وجئت أصلي
وفجرت ذاتي لهيبا جديدا
يمزق أغلال رقي وذلي!!
***
ورغم الظلام الذي ذقته من شرودي وميلي
نفضت الدجي عن وجودي ومزقت ويلي
وكبرت لله.. قلبي يكبر
قبل اختلاجات قولي
***
أتينا جميعا نصلي ..
وما كاد يُفتح للنور باب
ويومض للخطو حزن التراب
وقفنا.. وكادت خطانا تُشل بأعتابه
وكادت رؤانا تٌغَل على بابه!
وكدنا نحس..
بأنا بأرض ضللنا إليها طريق الصلاة
***
وجدنا المنابر
تحكي مجازر للطهر مخنوقة في العروق
وجدنا على صخرة الحق
ليلًا.. ينادي للشروق
ونارًا.. تشد يد النور
من قاع ليل عميق
وصوتًا من الله ..
يزأر في كل ركن عتيق
***
سنمضي لمحرابها القدس
جَمْعًا نُصلي!