ثقافة

خبز على طاولة الخال ميلاد.. رحلة البحث عن تعريف جديد للرجولة

في روايته  التي فازت مؤخرا بجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام “خبز على طاولة الخال ميلاد” يحاول الكاتب الليبي محمد النعاس أن يبحث عن التعريف المثالي للرجولة، عبر شخصية “الأسطى” ميلاد الذي تشكل صناعة الخبز جزءا رئيسا من معالم تحولات شخصيته في مراحلها المختلفة.

ميلاد هو الأخ الذكر الوحيد لعدة شقيقات، وهو ما دفع ثمنه كثيرا في مراحل مختلفة من حياته؛ حيث اتهم في رجولته حتى من قبل أبيه أقرب الناس إليه، وعندما يتعرف ميلاد على حبيبته زينب يقرر بعد أن يتزوجا أن يقضي أغلب يومه داخل المنزل؛ يقوم بأعباء البيت من طهي ومسح وكنس وإعداد الطعام بينما زوجته تعمل بالخارج من أجل الإنفاق على البيت! وتمضي الحياة على هذا التبادل في الأدوار الحادث بينهما إلى أن يفيق ميلاد على الحقيقة المرة، وهى تلك النظرة الدونية من المجتمع الذى كان يظنه لا يبالي بمسلكه.. وذلك في اللحظة التي يبلغه فيها ابن عمه بالأمر.

النعاس يبدو في روايته حريصا منذ اللحظة الأولى، على أن يتصدى للكثير من المفاهيم والموروثات المجتمعية التي وقفت حجرة عثرة في طريق الكثير من الأفكار؛ خاصة تلك التي ترسّخ للثقافة الذكورية، ولذا نجده يصدر الرواية بعبارة “عيلة وخالها ميلاد” وهى مقولة شعبية منتشرة بين الليبيين؛ لمعايرة الرجل الذى لا يملك سلطة على النساء اللاتي يتبعنه.

الكاتب الليبي محمد النعاس
الكاتب الليبي محمد النعاس

عندما يبدأ ميلاد في استعراض جزء من روتين حياته اليومي، فإنه يصدمنا جميعا “جهزت البيت ومسحت الغبار عن الصور واللوحات والأثاث، ولمّعت زجاج النوافذ والمصابيح؛ ليكون كل شيء جاهزا” لا يخجل ميلاد من ذكر أدق تفاصيل ما يفعله من واجبات منزلية قبل أن تعود زوجته زينب من عملها لتجد كل شيء معد في انتظارها.

يتذكر “الأسطى” ميلاد بعضا من ذكريات طفولته التي مازالت عالقة في ذاكرته حيث درس في مدرسة الظهرة بالمرحلة الابتدائية، وعن هذه الفترة يقول “صدحت بالنشيد الوطني بكل رحابة صدر في ساحة مدرستها وخرجت في مظاهرات طلابية ضد أمريكا والحركة الصهيونية واحتفالا بأول جماهيرية”.

“الكوشة” أو المخبز الذى كان يملكه والد “الأسطى” ميلاد؛ كان شاهدا على قصة حبه للخبز الذى تعلّم صناعته في هذا المكان، الذى فتح عينه على عوالم أخرى، شاهد فيها مصريين وجزائريين وتوانسة، كما احتك عن قرب بعمه الذي كان طامعا منذ وقت مبكر في أن يرث والد ميلاد، وان يفرض كلمته العليا على المخبز بكل ما حوى.

وعن ذكرياته الأولى مع الخبز يقول “الأسطى” ميلاد “كان ملمس العجين كحلوى المعجون لطيفا، وكان انغراس الموسي فيه، كأصبع يخط في رمل دقيق، وتحول كرهي للعجين في ذلك الوقت إلى حب ورغبة في المعرفة؛ إلا أن أجمل ما في الأمر، هو قول والدي: يوما ما ستكون أنت من يصنع الخبز”.

الشيء الملاحظ عبر فصول الرواية، هو تلك الرغبة القوية لدى “الأسطى” ميلاد في أن يهرب من أفكاره والاتهامات الدائمة التي تلاحقه، والتي تقدح دوما في رجولته خاصة بعد أن أصبح حلم الإنجاب بعيد المنال، بعد سنوات من الزواج.

تظل الخواطر والتساؤلات تلاحقه؛ بعد أن يفضي إليه العبسي ابن عمه بالحقيقة كاملة في لحظة نادرة اضطر فيها ميلاد أن يقف أمام المرآة، وأن ينظر لنفسه ليرى حقيقة طالما جاهد من أجل إخفائها، ورغم هذا كله فإنه يبدو منشغلا في ترتيب ملابس زوجته زينب في الدولاب الخاص بها؛ لتجد كل شيء في مكانه عندما تعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق.

يعلم ميلاد جيدا كيف ينظر إليه الناس، فهو يعي ماذا تعني عبارة “عائلة وخالها ميلاد” إنهم جميعا ينظرون إليك بوصفك ديوثا ولا شيء أكثر من هذا، لكن ميلاد رغم كل شيء لا يجيد شيئا أكثر من الصبر الذى تربي عليه صغيرا في مخبز أبيه.

مازال ميلاد يتذكر عبارات والده النارية “لقد لاحظت فيك ميوعة يجب ان تسترجل، أخواتك سيحتجن إلى رجل بجانبهن قريبا، يا ولد يا غبي أنت رجل لا يجوز للرجل أن يجالس النساء، إنهما كالملح والخميرة ألم تفهم؟”.

يتجرع ميلاد تلك اللحظات المريرة، التي كان أبوه يشعر فيها بالندم على إنجابه رجلا مثله، وفي تلك اللحظة تتشكل إحدى قناعاته “كان على في ذلك اليوم أن استنتج القوانين التي اتفق مجتمعنا على وضعها ومنها أن العفوية في الحديث عما يجول ببالك قد تشكل خطرا عليك وعلى من حولك”.

صراعات عديدة تدور داخل ميلاد في رحلة بحثه عن ذاته “كم مرة شعرت بأن أمرا سيئا بداخلي، روحا شريرة، شيطانا، جنيا يتلبسني ويحاول محو رجولتي، قضيت وقتي في البحث عن مخرج من الورطة، كنت اعيش داخل حلقة نيران لا مخرج منها سوى القفز داخلها”.

يعلو صوت ميلاد حينا في مواجهة مجتمعه ويخفق في أحيان أخرى، ونظل حتى السطور الأخيرة نلهث لمعرفة إلى أين ستقوده خطواته في نهاية المطاف في ظل مجتمع يقدح في ذكورته صباح مساء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock