لقد بدأت قصة شهر مايو مع مدينة عكا، فيما يتعلق بالصراع عليها بين المسلمين والغرب المسيحي، مثلما أوضحنا في المقال السابق، عندما بدأت القوات الألمانية بقيادة ملك الجرمان فريدريك بربروسا الأول بالتحرك ضمن الحملة الصليبيبة الثالثة يوم 11 مايو عام 1189م. ونتج عن تلك الحملة سقوط عكا في أيدي الصليبيين عام 1191م. ونظرًا لأهمية ذلك الميناء الحيوي، فقد سبق واستولى عليه الصليبيون خلال أولى حملاتهم على بلاد الشام، وكان ذلك عام 497هـ/1104م. وما أن سلمته الحامية الفاطمية هناك حتى أصبح الميناء الرئيس لمملكة الصليبيين في المشرق؛ فأقيمت فيه أحياء لكل مجموعة من مجموعات الفرنجة، الذين استقروا هناك. كما أنشئت بالمدينة مجموعة من الكنائس والأديرة بالإضافة إلى تحويل عدد من المساجد إلى كنائس.
مايو استرداد المسلمين لعكا من أيدي الصليبيين:
لقد ظلت عكا في أيدي الصليبيين منذ عام 1191م، فكانت أهم مراكزهم على ساحل الشام؛ حتى تمكن ثامن سلاطين الدولة المملوكية البحرية السلطان المملوكي الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون من استعادتها لحكم المسلمين من جديد. وبالرغم من أن حكم السلطان “الأشرف خليل” لم يدم سوى ثلاث سنوات [1290-1293م] إلا إنه كان من أبرز سلاطين الأسرة القلاوونية والدولة المملوكية، فنجح في تحقيق ما استعد له والده السلطان “المنصور قلاوون” الذي قرر التوجه لتحرير عكا من أيدي الصليبيين ولكنه مات قبل التحرك إليها.
وهكذا استرد المسلمون آخر معاقل الصليبيين في الشام، بعد حوالي مئة عام من الحملة الصليبية الثالثة، ففي يوم 18 مايو عام 1291م –أي منذ أكثر من سبعة قرون– عادت عكا إلى المسلمين بعد حصار دام أربعة وأربعين يومًا. وفي يوم 28 مايو عام 1292م انتهت المقاومة الصليبية في عكا لتصبح في قبضة المماليك حتى عام 1516م الذي انتهت دولتهم في العام التالي له.
ومن الأبيات التي تم نظمها ابتهاجًا بعودة عكا عام 690هـ/ 1291م إلى حُكم المسلمين ما أنشده الإمام شرف الدين البوصيري (أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي) [608-694ه/ 1213-1295م] تلميذ أبي العباس المَرْسي، وصاحب “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” المعروفة بـ”البُردة النبوية”– قائلًا:
قَدْ أخَذَ المُسْلِمُونَ عَكا***وَأَشْبَعوا الكافِرِينَ صَكا
وساقَ سُلْطَانُنَا إلَيْهِـــمْ*** خَيْلًا تَدُّكُّ الجِبَالَ دَكَّــا
وَأَقْسَمَ الترْكُ منْذُ سارَتْ*** لا تَرَكُوا لِلْفُرَنجِ مُلْكا
ولقد حاول المماليك استرداد ميناء عكا قبل ذلك التاريخ أكثر من مرة، فالملك الظاهر ركن الدين بيبرس، رابع سلاطين المماليك البحرية والذي تولى الحكم في الفترة [1260-1277م] حاول تطهير بلاد الشام من قبضة الصليبيين فتوجه إلى عكا عام 1263م، ثم تحرك إلى فلسطين مرة أخرى عام 1265م واستولى على قيسارية، وفي العام التالي استولى على صفد، ثم في عام 1268م استرد إمارة إنطاكية التي وصلت جيوشه إليها يوم 15 مايو الموافق غرة رمضان عام 666هـ، ولكن عكا بقيت عصية عليه.
وبعد استعادة المسلمين لـ عكا ظلت تحت سيطرة المماليك منذ عام 1291م ولكنها فقدت رونقها بعد تدمير السلطان “الأشرف خليل بن قلاوون” لأسوارها وحصونها خوفًا من عودة الصليبيين إليها. ففي أواسط القرن الثالث عشر الميلادي حصّن الصليبيون عكا؛ كي يأمنوا أي اعتداء خارجي على قواعدهم في بلاد الشام؛ فرمموا أسوارها وأحاطوا المدينة بسور آخر ذي أبراج بالإضافة إلى السور الذي كان قائمًا في القرن الثاني عشر الميلادي، كما تم حفر خندق بينهما بالإضافة إلى الخندق أمام السور الخارجي.
وفي عام 1516م وقعت عكا في أيدي الأتراك العثمانيين، واستولى عليها السلطان سليم الأول بعد انتصاره على المماليك، وإخراجهم من الشام التي بقيت جزءًا من الدولة العثمانية، على مدار أربعة قرون متتالية حتى عام 1918م.
وفي عهد الدولة العثمانية؛ شهدت مدينة عكا نهضة ملحوظة أيام حاكمها الفلسطيني الشيخ ظاهر العمر الزيداني الذي كان أحد أبناء منطقة الجليل، والذي اتخذها عاصمة له بعد الاستيلاء عليها عام 1163هـ/1750م؛ فقام بتجديد حصونها وأبراجها وعمارة السور المحيط بها، كما بنى فيها الأسواق والخانات مثل السوق الأبيض وخان الشونة؛ ومن ثم انتعشت فيها حركة التجارة بالإضافة إلى الاهتمام بالزراعة والصناعة. وفي البداية حكم الشيخ ظاهر بن عمر الزيداني مدينة صفد، وفي عام 1742م تمكن من ضم طبرية إليها وعمرها وأعاد بناءها وتحصينها بعد أن أصبحت خرابًا، ثم ضم عكا إلى إمارته، وبنى سورًا جديدًا لها واستطاع أن يستقل بالحكم في شمال فلسطين إلى أن قُتِلَ؛ فاستعادت الدولة العثمانية سيطرتها على فلسطين مرة أخرى.
وبعد الشيخ ظاهر العمر، حكم عكا وساحل فلسطين والشام، أحمد باشا الجزار لمدة ثلاثين عامًا. ولقد كان حُلم أحمد البوشناقي أو البوسني المعروف بأحمد باشا الجزار [1734-1804م] أن يحكم الشام بل ومصر، وكانت طموحاته تلك تقلق السلطان العثماني؛ خاصة بعد نجاحه في تحقيق الاستقلال بأجزاء من بلاد الشام، ولكن دون إعلان الاستقلال رسميًّا عن الدولة العثمانية. خدم الجزار المماليك في البداية؛ فتعلم مهاراتهم وتطبّع بعاداتهم وسلوكياتهم فعينه علي بك الكبير مسئولًا عن حفظ الأمن والنظام في القاهرة، ثم فرَّ إلى سوريا بعد محاولة الإيقاع به والتآمر عليه.. إلى أن كُلِّفَ عام 1772م من قِبل الدولة العثمانية بالدفاع عن بيروت ضد الروس، وبعد نجاحه في تلك المهمة العسكرية؛ عُين حاكمًا عليها، ومنها انطلق إلى التوسع في بلاد الشام والساحل الفلسطيني. فبعد مقتل ظاهر العمر عام 1775م عين الجزار واليًا على صيدا ومُنح لقب “باشا” فاختار مدينة عكا كي تكون مقرًّا جديدًا لحكم ولاية صيدا، واستطاع التغلب على قوة المماليك العسكرية في المناطق التي يحكمها.
مايو وفشل نابليون في الاستيلاء على عكا:
وفي عام 1214هـ/ 1799م فرض القائد الفرنسي “نابليون بونابرت” [1769-1821م] الحصار على عكا بعدما استطاع الاستيلاء على مصر، ولكن “أحمد باشا الجزار” رفض الاستسلام له، وتصدت حامية المدينة للدفاع عن عاصمة حكمه، بمساعدة من البحرية البريطانية التي أمدتهم بالمدافع، ما أدى إلى انسحاب جيش بونابرت من عكا في العشرين من مايو بعد شهرين من حصارها. وخلَّد ذلك الانتصار اسم الجزار، الذي ارتبطت سيرته بما شيده في عكا من تحصينات، إذ بنى لها سورين وشيد فيها سوقًا وحمامًا ومسجدًا كبيرًا على نمط مساجد اسطنبول بالإضافة إلى بناء خان العمدان.
مايو نجاح إبراهيم باشا في الاستيلاء على عكا:
لم تكن نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، هي خاتمة قصة شهر مايو مع مدينة عكا والصراع عليها، بل إن النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، شهد قصة جديدة للصراع على عكا، فمنذ ما يقرب من مئتي عام نشبت الحرب المصرية العثمانية [1831-1833م] وحُصِرَت عكا لمدة ستة أشهر انتهت بنجاح إبراهيم باشا ابن والي مصر محمد علي باشا في الاستيلاء عليها، وكان ذلك يوم 27 مايو عام 1832م الموافق 27 ذي الحجة عام 1247هـ. وخلال ذلك الحصار تهدّمت أسوار عكا والكثير من مبانيها، وظلت عكا تحت سيطرة والي مصر، ومؤسس الأسرة العلوية حتى عام 1256هـ/1840م إذ عادت مرة أخرى إلى حكم العثمانيين بمساعدة إنجلترا.
وهكذا ارتبط شهر مايو/ أيَّار بمدينة عكا، وبالصراع عليها بين المسلمين والغرب المسيحي، فمنذ الحروب الصليبية كان سقوط عكا في أيدي الصليبيين يوم 11مايو عام 1189م، ثم استرداد المسلمبن لها عن طريق السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون يوم 18 مايو عام 1291م، ثم فشل حصار القائد الفرنسي نابليون بونابرت لها، ومن ثم هزيمته أمام أسوارها يوم 20 مايو عام 1779م، ثم تمكن إبراهيم باشا والجيش المصري من الاستيلاء عليها تحديًا للدولة العثمانية يوم 27 مايو عام 1832م.
فهل انتهت علاقة شهر مايو بمدينة عكا عند هذا الحد، أم لشهر مايو قصة أخرى مع مدينة عكا ما زالت مستمرة حتى الآن – وهي قصة الاحتلال الإسرائيلي لعكا في النصف الأول من القرن العشرين، وما صاحبه من حركات استيطانية ومحاولات لتهويدها؛ بهدف إزاحة الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه بالتدريج؟