شهدت أوروبا في الأيام القليلة الماضية موجة حر شديدة هي الثانية التي تضرب أجزاء كبيرة منها منذ بداية فصل الصيف، ولقد أسفرت تلك الموجة عن حرائق ضخمة في دول مثل: فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وقبل ذلك ضربت موجات حر شديدة شنغهاي في الصين ومناطق في الولايات المتحدة الأمريكية، كما سُجِّلت حرائق كبيرة في كرواتيا والمجر وتركيا واليونان، بالإضافة إلى ما شهدته المغرب من اندلاع لعدد من الحرائق في الغابات هناك والتي أدت إلى إجلاء المئات من منازلهم.
وبالفعل فقد أصبحت المعاناة من التغيرات المناخية هي سمة ذلك العصر؛ فإذا بكوكب الأرض قد بات –خاصة في تلك الآونة من كل عام– يعاني من ارتفاع درجات الحرارة بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري Global Warming التي تسببت فيها الأنشطة البشرية الملوثة للبيئة، والتي أدت إلى ازدياد متوسط درجة حرارة سطح الأرض وازدياد كمية بعض الغازات في الغلاف الجوي لكوكب الأرض.
وتتمثل أهمية الغلاف الجوي للأرض، الذي هو عبارة عن خليط من الغازات التي تحيط بالكرة الأرضية والمجذوبة إليها بفعل الجاذبية الأرضية، في حماية الأرض من امتصاص الأشعة فوق البنفسجية بالإضافة إلى عمله على اعتدال درجة الحرارة على سطح الأرض؛ ولكن تراكم الأكاسيد الكربونية والأكاسيد النيتروجينية أو ما يُعرَف بغازات الاحتباس الحراري في طبقة الاستراتوسفير Stratosphere، وهي ثاني طبقات الجو العليا التي تمتد من ارتفاع 18كم إلى نحو 50 كم فوق سطح البحر، أدى إلى ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض والذي ازداد بمقدار 6,0 درجة سيليزية خلال القرن العشرين، ومن المتوقع أن يزداد بمقدار 4,1 إلى 8,5 درجة سيليزية من عام 1990م وحتى عام 2100م.
وتتمثل خطورة تراكم الأكاسيد المعروفة بغازات الاحتباس الحراري في إعاقتها لنفاذ الأشعة الشمسية المنعكسة من سطح الأرض إلى الفضاء الخارجي، إذ إنها تمتص الإشعاع الحراري ذي الموجة الطويلة مثل الأشعة تحت الحمراء وتبقيها حبيسة في الغلاف الجوي للأرض مما يرفع من درجة حرارتها، ومن ثم يشكل خطرًا على البيئة والصحة. فعلى سبيل المثال تسبب على وجه التحديد النشاط البشري الصناعي في زيادة نسبة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) في الغلاف الجوي بنسبة 45%، إذ إن غازات الاحتباس الحراري أو ما يُعرَف بالغازات الدفيئة الضارة (GHG) Greenhouse Gases تنبعث بصفة رئيسية من المحطات التي تعمل بالفحم أو النفط ومن عوادم السيارات، لذلك فإن الدول المتقدمة صناعيًّا مثل: الصين والولايات المتحدة الأمريكية هي للأسف الأكثر إضرارًا بالبيئة. وإذا كانت القائمة تشمل دولًا أخرى مثل: الاتحاد الأوروبي والهند وروسيا واليابان والبرازيل وكندا وإيران وإندونيسيا والسعودية إلا إن الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الثورة الصناعية هي أكثر دولة أصدرت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، وذلك بالرغم من أن الانبعاثات الصادرة من الصين حاليًا تزيد عن ضعف الانبعاثات الصادرة من الولايات المتحدة. 1https://arabic.cnn.com/world/article/2021/10/29/china-us-gas-emission-co2
وإذا كانت الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا العظمى منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي قد أثرت على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم؛ فازداد دخل الفرد في الدول الصناعية وتأثر معدل النمو السكاني، إلا إنها تسببت أيضًا في الإضرار بالبيئة الطبيعية، وفي الانخفاض الهائل للتنوع البيولوجي على الأرض بسبب التلوث الذي أصاب المسطحات المائية مثلما أضر بالغلاف الجوي لسطح الأرض ما سيؤدي إلى ندرة الموارد الطبيعية وانقراض الثروات النباتية والحيوانية؛ خاصة في ظل إزالة الغابات الخضراء؛ ومن ثم ستكون النتيجة هي التعرض الحتمي لخطر المجاعات.
والتحدي الأكبر الذي يواجه كوكب الأرض الآن يتمثل في قدرة الدول الصناعية الكبرى على التضحية بمصالحها الاقتصادية والسياسية من أجل الحفاظ على سلامة الغلاف الجوي للأرض، فتغيير نوعية الطاقة المستخدمة في الصناعة ووسائل النقل والتدفئة وغيرها عن طريق استخدام الطاقة النظيفة بديلا للوقود والفحم وغيرهما من المصادر الملوثة للبيئة – هو أهم خطوة في سبيل إنقاذ كوكب الأرض. فالغالبية العظمى من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون البشرية المنشأ مصدرها هو احتراق الوقود الأحفوري وخاصة الفحم الحجري والنفط والغاز الطبيعي. فهل بعد الحرب الروسية الأوكرانية وما يشهده العالم من ارتباك في سوق الطاقة العالمية سيكون من السهل على الدول العظمى إنقاذ كوكب الأرض من عواقب ظاهرة الاحتباس الحراري؟
تأمين الطاقة الهيدروكربونية (الغاز والنفط):
منذ ما يقرب من خمسين عامًا استخدم العرب سلاح النفط كسلاح إستراتيجي ضغطوا به على المعسكر الغربي الداعم لإسرائيل؛ فاستطاعت مصر بمعاونة العرب أن تحقق نصرًا اقتصاديًّا واكب انتصارها العسكري في حرب أكتوبر عام 1973، و أدى ذلك إلى تحرير أرضها من عدوها الغاصب، وإلى ظهور ما يُعرَف بسياسات تأمين مصادر الطاقة. واليوم وبعدما كانت الدول العربية تجتمع في الماضي من أجل التفاوض بشأن رفع أسعار النفط عالميًّا بهدف وضع حد لدعم الغرب للكيان الصهيوني المحتل عن طريق وقف تصدير النفط إلى الدول الغربية التي تمد إسرائيل بالسلاح، أما الآن فلم يعد الدم العربي أغلى من البترول العربي؛ بل أضحت اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل هي المغنم الذي يسعى إليه القادة العرب الواحد تلو الآخر في وضح النهار دون تستر أو حياء وذلك من أجل حفنة أموال تتقطر منها دماء شعب فلسطين المغلوب على أمره.
فهل ما زال النفط سلاحًا استراتيجًّا تملك الدول العربية حق التحكم فيه من أجل تحرير مقدساتها المغتصبة؟ أم إن الأنظمة العربية قد فقدت القدرة على الدخول في أية مواجهة ضد حلفائها الغربيين وصديقهم الصهيوني من أجل حماية استثماراتهم المالية وشراكاتهم الاقتصادية معهم؟
بعدما انتقل مركز التجمع العربي من مصر إلى السعودية (أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم)، وبعد زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة لإسرائيل ثم للسعودية (أكبر مشترٍ للأسلحة الأمريكية)، وفي ظل أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية فإن تأمين الإمدادات النفطية لابد وأن يكون على قائمة أولويات الأجندة الأمريكية مع عدم التخلي في نفس الوقت عن تزايد استخدام مصادر الطاقة النظيفة كبديل تدريجي للطاقة الهيدروكربونية الملوثة للبيئة.
لقد تسببت جائحة كورونا في عام 2020م في توقف حركة الطيران لعدة أشهر ما أدى إلى تراجع الطلب على النفط والفحم؛ ومن ثم انخفاض إنتاج البترول، بينما كان هناك نموًّا ملحوظًا في استخدام مصادر الطاقة المتجددة مثل: الطاقة الشمسية الكهروضوئية، وطاقة الرياح، والطاقة الكهرومائية، والطاقة الحيوية الزراعية، والنفايات الصلبة، والطاقة الحرارية الأرضية، والطاقة البحرية وتشمل (طاقة الأمواج وطاقة المد والجزر والطاقة الحرارية للمحيطات)، والتوربينات العائمة، والطاقة الشمسية الحرارية، والطاقة النووية. ولكن بدءًا من أغسطس الماضي عاد إنتاج النفط يزداد تدريجيًّا بعدما انحصر الوباء. ومنذ أن بدأت الحرب بين روسيا وأوكرانيا قفزت أسعار النفط لمستويات كبيرة تخطت المئة دولار للبرميل مما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود في كل دول العالم. ومن أجل مواجهة أية أزمات مستقبلية للطاقة بعد معاداة روسيا فإن الولايات المتحدة الأمريكية أضحت تركز جهودها من أجل الضغط على مجموعة أوبك (الدول المصدرة للنفط) من أجل زيادة إنتاجها بهدف خفض الأسعار.
وإذا كانت سماء أوروبا قد شهدت في شهر يوليو غمامات الأدخنة المتصاعدة من جراء الحرائق الناتجة عن تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة؛ فإن سماء السعودية لن يكون غريبًا عليها بعد الآن كثرة الغمام الناتج عن طواف الطيران المدني الإسرائيلي فيها كخطوة أولى لتطبيع أوسع بين السعودية وإسرائيل. فقد آن للمملكة أن تحفظ أمنها بعد تعرض منشآتها النفطية أكثر من مرة لهجوم طائرات مُسيَّرة، ومن ثم كان لابد لزيارة الرئيس الأمريكي للسعودية أن تسفر عن نتائج واضحة ستشهدها المنطقة العربية بعد زيارته لإسرائيل وبعد انعقاد قمة جدة للأمن والتنمية. وفي مقابل التعهد بحماية السعودية من التهديدات والاعتداءات الإيرانية كان لابد من توقيع الاتفاقية التاريخية التي تقضي بانسحاب قوات حفظ السلام من جزيرة تيران في البحر الأحمر وفتح مجال السياحة وحرية الملاحة مع إسرائيل.
إن ثورة الطاقة المتجددة قد تغير من أهمية الطاقة الهيدروكربونية؛ ولكن لن يحدث ذلك قبل مرور عقد أو عقدين من الزمان، وإذا كان نفوذ أكبر الدول المنتجة والمصدرة للنفط من الوارد أن يتأثر بتلك الثورة في المستقبل؛ فإن تعهد السعودية بزيادة إنتاجها من النفط إلى 13 مليون برميل يوميًّا بحلول عام 2027، بينما لن تكون لديها أية قدرة أخرى على زيادة الإنتاج بعد ذلك يعني استجابتها لتلبية حاجة السوق الأمريكي خلال فترة الأزمة الذي يستعد لتفاديها. وهكذا سيكون ضخ المزيد من النفط خلال السنوات القليلة القادمة كفيلًا بخفض تكلفة الوقود المرتفعة وخفض معدلات التضخم في الولايات المتحدة. ومن أجل تلبية تزايد الطلب العالمي خلال تلك الفترة المحدودة القادمة، فستكون هناك استثمارات أكبر في الوقود الأحفوري في الخليج لكن مع الاستعانة بتقنيات الطاقة النظيفة لمعالجة الانبعاثات الكربونية الضارة بالبيئة.
وهكذا تكون قمة جدة قد آتت أكلها وأظلت المنطقة العربية بغمائم السلام مع إسرائيل التي تتلازم مع تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الدول المشاركة فيها والولايات المتحدة الأمريكية لخدمة المصالح المشتركة وتعزيز الأمن والتنمية في هذه المنطقة الحيوية والهامة. ولأن الصراع أولًا وأخيرًا هو صراع على مصادر الطاقة فإنه لابد للولايات المتحدة من تأمين التوازن في مجال إمدادات الطاقة وضمان إنتاج دول الخليج لمستويات النفط المطلوبة. وذلك الأمر لا يتنافى مع مواجهة تحديات تغير المناخ والتي تتطلب الانتقال المتدرج نحو استخدام مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة. ومن أجل استمرارية استخدام كافة مصادر الطاقة ومن ثم تجنب التعرض للمشاكل الناتجة عن التوقف غير التدريجي لاستخدام مصادر الطاقة الهيدروكربونية مثل التضخم والبطالة وارتفاع أسعار الوقود ومن ثم تزايد الفقر والمجاعات، فإنه لابد من التزام الدول المصدرة للنفط بالتحكم في انبعاثات الكربون من خلال التقنيات التي تقلل من التلوث الناتج عن استخدام النفط والغاز.
لقد أعلن “بايدن” صراحة أن الهدف من رحلته هذه إلى المنطقة العربية هو تحديد موقع الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط دون ترك فراغٍ يمكن أن تشغله الصين أو روسيا في المستقبل، وبالتالي كان لابد أن يكون هناك استثمار سعودي في التكنولوجيا الأمريكية من أجل تأمين شبكات الجيلين الخامس والسادس في السعودية وغيرها من الدول النامية بالإضافة إلى تطوير البنى التحتية في تلك الدول استعدادًا لاستقبال تلك التقنية الحديثة التي ستغزو العالم في منافسة شرسة مع الصين. ليس ذلك فقط بل ستكون هناك أيضًا شراكة سعودية أمريكية تركز على إنتاج الطاقة الشمسية وغيرها من مصادر الطاقة النظيفة. وطالما هناك تعاون في المجالات الاستثمارية بمختلف أنواعها فحتمًا سيكون هناك انسجام في التوجهات السياسية التي لن يكون معها التطبيع مع إسرائيل أمرًا مشينًا بل ضرورة ملحة تفرضها قوانين السوق الاستثماري. وهكذا لن تكون غمائم السلام قاتمة اللون مثلما يظن أنصار القضية الفلسطينية! فالأهم الآن بالنسبة للأنظمة العربية – خاصة تلك التي تخشى من الانهيار الاقتصادي في أي وقت والتي تعاني شعوبها من الغلاء وارتفاع الأسعار والبطالة– هو ضمان أمن وتنمية كل دولة على حدة حتى لو كانت سماء المنطقة العربية ملبدة بالغمام الذي يضيق به البعض.