رؤى

الزمن.. هذا العملاق الذي يقف في مواجهة الإنسان!

لا ندري على وجه الدقة متى توقف الإنسان فجأةً؛ لتعتريه تلك الدهشة المؤرقة كونه لا يملك شيئًا حيال تغيُّر الزمن وانفلاته وتصرُّمه؟ وكيف عاين هذا القلق الذي أحدثته موجة عارمة من أسئلة تتعلق ببدايته وانتهائه، أو بأزليته وأبده، أو بتدفقه وتوقفه؟

لكن المرجح أن ذلك حدث مبكرا جدا، ربما حين داعب حلم الخلود مخيلة آدم؛ فجعله يستجيب لغواية الشيطان بالأكل من الشجرة؛ فكان جزاؤه الطرد من الجنة.. هذا ما جعل الفناء ومحاولة الهروب منه هو هاجس الإنسان الأول الذي رأى في الزمن عدوا لا يعرف الرحمة، ولا يجامل أحدا.

لم يأت النص القرآني على ذكر لفظة الزمن أو الزمان، وإن تعددت الألفاظ التي تشير إلى هذا المعنى مثل: أمد، حين، أزل، دهر.. كما ينقسم الزمن من حيث المفهوم في النص ذاته إلى عالم فان (الدنيا) وعالم باق (الآخرة) وقد تعددت اتجاهات العلماء المسلمين في موضوع الزمن لتصل إلى خمسة مفاهيم رئيسة هي:

– المفهوم الموضوعي: بوصف الزمن عرضا وتقديره بمقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر، وقد ذهب إلى هذا الاتجاه النسبي معظم الفلاسفة المتأثرين بالفلسفة الأرسطية (اﻟﻤشائية) ﻛﺎبن سينا وابن رشد، وكذلك بعض الفلاسفة الطبيعيين كابن الهيثم وجابر ابن حيان.

ابن سينا
ابن سينا

– المفهوم المثالي: ويرى أصحابه أن الزمن من أعمال العقل، أو أنه عرض ناشئ عن الحركة مع ارتباطه بالعقل اللازم لحدوث الإدراك.. ومن أمثلة أصحاب هذا المفهوم الغزالي وابن حزم.

-المفهوم الذري المؤسس على نظرية ديمقريطس وقد تبناه الأشعري والجويني وغيرهما.

-المفهوم النفسي الإشراقي الذي تأثر به غدد من فلاسفة الغرب مثل: كانط وبرجسون.

– المفهوم الأخير تبناه الفخر الرازي ويقوم على عدم القطع بشيء في مسألة الزمن.

تلك المحاولات المبكرة لإدراك طبيعة الزمن، بما يمثله من إطار للوجود، يشكِّل بانقضائه ماضيًا، وباستغلاقه حاضرًا، وبغيبيته مستقبلاً –  جعلته كُلاً مسرفًا في حقيقته لا يمكن دحضه.

هذا العملاق الذي يقف في مواجهة الإنسان بمحدودية إدراكه لكثير من الظواهر، ربما كان هو مجرد تصور إنساني مبتدع على وجه الضرورة لوضع تراتب للأحداث يجعلها قابلة للتعقل.

هذا الضد الذي صار حكمًا، الذي اتحد بالوجود وقَبِلَ العدم ، فكان حضوره بالغًا والفناء محتوىً فيه بغير قابلية تُوقِف صيرورته.

لذلك كان من البدهي أن يرتبط المكان بمحدوديته وسكونيته وثباته -لدى الإنسان- بالزمن بديمومته وتعاقبه وتغيره، وهي حيلة تقصد إلى إلزام للزمن بما لا يلزمه، فلا يمكن أن يكون المكان عاليًا عليه بالقرار، وهو المفارق دومًا، والمستعصي على الاقتناص؛ لذلك لم يتجاوز الأمر وهمه الطريف كما في آلة الزمن لهربرت جورج ويلز.

ألة الزمن لـ هربرت جورج ويلز
ألة الزمن لـ هربرت جورج ويلز

رأى الأقدمون في الزمن استقلالاً بذاته عما سواه من الموجودات، والمادة في سكونها وثباتها بالنسبة له في اندفاعه وتواليه، كصخرة في مجرى النهر!

ولكن الزمن لا يمكن أن يكون مستقلاً عن الحركة، والحركة ذات مبتدأ ومنتهى، وديمومة الزمن لا تضاد ذلك لأنَّه قديم لا متناه، ولكن لا نهائيته لا تمس فعل الخلق، بل تؤكده كما يقول ابن رشد.

والعد طارئ على الزمن، وهو تصوُّر له على بعض جزئه وهو الآن، وهو ما قسَّمه تاليًا إلى قبل وبعد، وهو- في نظري- تصوُّر يعكس قصورًا؛ لأنَّه محض توهم ذهن، غير أن أثر ذلك في الأشياء، هو ما يجعل لهما- القبل والبعد- وجودًا متحققًا.

لقد أخذ ابن رشد بفكرة القديم بذاته الذي لا يطرأ عليه التغيُّر، والذي هو مبدأ وجود جواهر الأشياء، ورأى بقدم خلق العالم أيضًا، انطلاقًا من أنَّه من غير المقبول أن يكون قد مر على الله – تعالى- زمن لم يكن فيه خالقًا!

كما ذهب ابن رشد إلى أن القول بحدوث العالم (فعل الخلق) تقتضي عزمًا محدثًا، يجعل الله- تعالى – يفعل ، بعد أن كان لا يفعل ، وهو ما لا يجوز في حقه سبحانه.

ابن رشد
ابن رشد

لكن ذلك وغيره لم يضعف تلك المساورات العنيفة أو يهدِّئ من غلوائها إذ نرى نزوعًا إنسانيًا نحو التحرر من ذلك الأسر الممض في إطار الزمن الذي وكأنَّه صار قيدًا للوجود ذاته برغم أنَّه في أزليته وأبديته قد بدا سرمديا لا متناهي الطرفين يزدري الوجود الإنساني الذي يتبدى عارضًا ومقحمًا ومراوحًا حد الشفقة، حتى أنَّه استلزم الخروج من ضيق الحدود إلى سعة الفناء حسب تعبير أبي يزيد البسطامي.

وأمام عجز الإنسان عن قبض الراهن المتصرِّم بتدافع الزمن اللحظة تلو الأخرى – لجأ الإنسان إلى التذكُّر ليمارس سلطة ما على جزء الزمن المنقضي؛ مناوئًا النسيان الذي هو آلة هرب وسطو على ما هو مظنَّة امتلاك.

كذلك كان التنبؤ محاولة للسيطرة على جزء الزمن المتهيئ للحدوث في سبيل الإبقاء على بقعة تصلح لرسوخ القدم، في مواجهة غير عادلة وصراع لا تكافؤ فيه.

ولكن ذلك على نصاعة حقيقته لا يقف دون رغبة إنسانية عارمة في إيقافه واحتوائه، فحتى مع التسليم له بالأبد، إلا أن ذلك لا يعني أن يرتضي منه الإنسان بكل هذا البدد!

والحقيقة أنَّ الاعتقاد بالبعث والخلود قد صار قنطرة العبور بعيدًا عن لجَّة النهر وجريانه المتتالي، قنطرة تؤمن سلامًا للنفس تستطيع به أن تتجاوز قهرية الزمن واستحالة مماشاته، فالإرادة الإلهية هي التي ستنتصر للإنسان في النهاية، وهي التي ستمنحه الخلود، ذلك الاعتقاد الذي يرى الزمن خطًا مستقيمًا ممتدًا يبدأ بخروج آدم من الجنة ، وينتهي بقيام الساعة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وهو ما ينفي فكرة دائرية الزمن، وإمكانية استدعاء الماضي، فالتاريخ لا يكرر أحداثه بقدر ما يسهو الإنسان عن تدبر عواقب أخطائه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock