ابن حزم، علي بن أحمد سعيد بن حزم (384 ـ 456 هـ) ولد في قرطبة من عائلة عريقة في مكانتها الاجتماعية، ساهمت في توجيهه الوجهة السياسية والفكرية، وفي التمكين له من أن يكون من أعلام الدولة الأموية في الأندلس، حيث عمل وزيرا أكثر من مرة في ظل هذه الدولة، التي دافع عنها دفاعا حارا.
ويعد ابن حزم من أشهر علماء الأندلس وأكثرهم أصالة وعبقرية، ويعتبر من هذه الناحية أصدق ممثل لثقافة الأندلس. وقد تعددت نشاطاته الفكرية، فهو شاعر ومفكر ومن علماء التوحيد، ومؤرخ وناقد للمذاهب الدينية والمدارس الفلسفية واللاهوتية، كما أنه باحث في الأخلاقيات والتشريع والسياسة. وقد ترك وراءه ثروة ضخمة من آثار عقله الكبير، بلغت حوالي أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة.
المذهب الظاهري
ولعل أهم ما يلفت النظر هنا هو “المذهب الظاهري” الذي يعد ابن حزم من أشد دعاته. ويعود هذا المذهب في نشأته إلى داوود بن علي الأصبهاني (202 – 270 هـ) الذي كان في أول أمره شافعيا، ثم انصرف إلى طلب الحديث وتخلى عن القياس، الذي كان اتباع الشافعي يسرفون في الاعتماد عليه.
أما “ظاهرية” ابن حزم فهي وإن كانت تسير في نفس اتجاه داوود، إلا أنها كانت أوسع وأعمق. فرغم أن ابن حزم كان شافعيا في المرحلة الأولى من حياته الفكرية، إلا أنه أيضًا ترك المذهب الشافعي، لا ليتبنى المذهب الظاهري كما كان في عصره، ولكن ليؤسس لنفسه مذهبا جديدا، يقوم على الظاهر فعلًا.
ولكن، لا “الظاهر” بمعنى التقيد بالنص في إصدار الأحكام الشرعية وحسب، كما هو شأن ظاهرية داوود الأصبهاني واتباعه، بل “الظاهر” بمعنى رفض القول بـ”الباطن” جملة؛ أي رفض العرفان الشيعي والعرفان الصوفي معا من جهة، ورفض القياس كما مارسه الفقهاء وكرسه المتكلمون من جهة أخرى.
وهنا، يتبنى ابن حزم ما يمكن تسميته “البيان” الذي يعرفه بأنه: “كون الشيء في ذاته ممكنًا أن تُعرف حقيقته لمن أراد علمه”. ومن ثم، يُقرر أن الشريعة والعقيدة معا هما موضوع بيان القرآن، وبالتالي فمسائلهما يمكن معرفتها مباشرة من القرآن، بدون تأويل باطني ولا لجوء إلى تأويل عقلي.
فالإسلام عقيدة وشريعة، كما يؤكد ابن حزم، ورد بـ: “ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن، فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن، إلى معنى غير ما وضعت له”.
نظرية المعرفة
وإذا ما اقتربنا من نظرية المعرفة عند ابن حزم، نجده يُقرر أن العلم والمعرفة هما اسمان يقعان على معنى واحد، بمعنى: “إن لفظ العلم مرادف للفظ المعرفة ومعناهما واحد”. والعلم، عنده، هو: “اعتقاد الشيء على ما هو عليه، وتيقنه وارتفاع الشكوك عنه”. أما المعرفة فهي: “حسية وعقلية معا”. ومن هنا، فإن وسائل تحصيل المعرفة عنده هي شهادة الحواس والعقل (لنا أن نلاحظ، هنا، أن تعريف ابن حزم للعلم، يقترب كثيرا من تعريف الباقلاني ـ الذي سبق ابن حزم بسنوات ـ في كتابه “الإنصاف” حيث عرَّفَ العلم بأنه: “معرفة المعلوم على ما هو به”).
في ما يتعلق بـ”شهادة الحواس”، وكما جاء في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” فإن: “النفس تدرك المحسوسات المادية عن طريق الحواس الخمسة، كعلمها (النفس) أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها، وأن الرائحة الرديئة منافرة لطبعها، وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر والأبيض”. وإلى جانب الحواس الخمسة هذه، هناك حاسة سادسة هي ـ
عند ابن حزم، العلم البديهي أو علم النفس بالبديهيات والمبادئ الأولية، أي الأمور التي يدركها الإنسان من غير أن يعرف عليها دليلا.
أما فيما يختص بالعقل، فهو المصدر الثاني من مصادر المعرفة، ويلعب دورًا رئيسا في تحصيلها. ويؤكد ابن حزم على أهمية العقل ودوره، كأحد وسائل تحصيل المعرفة بقوله: “إنه لولا العقل ما عرفنا صحة شيء. وإن من كذب بشهادة العقل فقد كذب. ومن أبطل العقل فقد أبطل التوحيد. إذ لولا العقل لم يُعرف الله عز وجل”.
ولعل رؤية ابن حزم، هذه، تعود إلى اهتمامه بالدفاع عن عدم التناقض بين كل من الفلسفة والشريعة، وفي هذا يقول: “إن الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والمقصود بتعلمها، ليس هو شيئًا غير إصلاح النفس. وهذا نفسه هو الغرض من الشريعة. وفي هذا يتفق علماء الفلسفة وعلماء الشريعة، ولا خلاف فيه بينهما”.
إضافة إلى ذلك، يُعد ابن حزم من كبار رجال الجدل المشهورين بمناقشاتهم الجدلية مع أهل الفرق الأخرى من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم، ومع أهل العقائد الأخرى من يهود ومسيحيين وغيرهم. ومن المعروف أن قواعد جدال ابن حزم لأهل الملل الأخرى، ومبادئ نقده للكتب المقدسة لهم، تعتبر الآن من قواعد ومبادئ علوم “النقد الكتابي”، التي لم تُعرف في أوروبا إلا في القرن التاسع عشر.
ومن هنا، كانت إشارة المستشرق “جب” لمنزلة ابن حزم وتفرده في هذا المجال، عندما قال: “ابن حزم كُرِم في الغرب باعتباره مؤسسًا لعلم مقارنة الأديان”.
طوق الحمامة
وضمن الإنتاج الفكري الغزير لابن حزم، تأتي رسالته في: “الألفة والآلاف” (طوق الحمامة)، التي تعتبر من أهم المؤلفات التي تناولت موضوع الحب والمحبين. وهي دليل على تنوع ثقافته وصراحة رأيه ونجاحه في تناول أرق الموضوعات بأرق لغة، وهو في ذلك الإمام المحدث الفقيه. بل تعد هذه الرسالة، ثمرة من ثمرات المذهب الظاهري في الأدب العربي في ذلك العصر.
وتعتبر الرسالة من أفضل الدراسات استيفاءً لظاهرة الحب، في إطارها النفسي والاجتماعي. وقد تعمق ابن حزم، من خلالها، في دراسة النفس الإنسانية فيما تحب وتألف. ولعل أهم ما تتميز به الرسالة أنها محاولة ضمن المحاولات المبكرة في علم النفس، خاصةً وأنها تعتبر ثمرة مشاهدات ابن حزم وملاحظاته المباشرة لمعاصريه، وتجاربه الخاصة، مما يجعلها تسجيلًا واعيًا لمظاهر السلوك الإنساني، في حساسيته وتنوعه.
يكفي أن نشير، في هذا المجال، إلى دلالات عنوان الكتاب “طوق الحمامة” التي تجمع بين ما هو ثابت، وما هو مُتغير؛ فالألفاظ فيه تتجاوز المعنى المباشر السطحي، إلى ما تحمله من سياقات دلالية عميقة. فكلمة طوق في تركيبها ومعناها المباشر، تشير إلى حبًات مُكَرَّرة لها الشكل نفسه غالبا، فمهما كان شكل الطوق، أو تركيبه ـ كطوق الياسمين، أو طوق اللؤلؤ، مثلًا ـ فسيبقى مجموعة من الوحدات المصفوفة بشكل متماثل، ونسق ثابت تُشكل فيه كل وحدة منفردة بداية ونهاية في الوقت نفسه؛ تمامًا كما هو الحال في مواضيع الكتاب. أما دلالة “الطوق” التي تتعلق بالمحتوى، محتوى الكتاب، فهي تشير إلى تقديم ابن حزم العواطف والحالات الشعورية على أنها كـ”الطوق” من حيث تكرارها وتواترها.
وإذا كان ابن حزم قد عرف “كتاب الزهرة” لابن داود، فإن هذا لا يقلل، بأي حال من الأحوال، من أصالة ابن حزم وإبداعه الفكري، لأنه تناول الأمر على نحو مختلف تمامًا.
وفي هذا، فنحن نتفق تمامًا مع المستشرق الأسباني “إيليو غرسيه غوميث”، عندما قال في مقدمة ترجمته لـ”طوق الحمامة” إلى الأسبانية: “على الرغم من وجود إشارة نصية بسيطة، ومن التوافق في الاتجاهات العاطفية، فإن “الطوق” لا يدين إلى “الزهرة” في شيء”.