لا يختلف اثنان على مكانة الفارابي الفلسفية، والتي لخصها لقبه الشهير “المُعلم الثاني”؛ لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين على السواء، يتمحور حول مدى أصالة الرجل.. فهو في رأي معظمهم، كان أسير الفكر اليوناني شرحا وتأليفا في المنطق الشارح الأكبر لمنطق أرسطو، وفي السياسة يتبع أفلاطون صاحب “الجمهورية” التي رسم فيها معالم المدينة المثالية، والتي حاكاها الفارابي في “أراء أهل المدينة الفاضلة”.
ولعل هذا الخلاف يعود في ما يعود إليه إلى الخلط الناشئ عن عدم التمييز، تمييزًا قاطعًا بين مؤلفات الفارابي وشروحه. فقد تدرجت رحلة الفارابي الفلسفية، من الشرح والتلخيص إلى التأليف.. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن الفارابي كان في الحالتين صاحب رؤية تُميزه، جوهرها رؤيته لنفسه، بكونه يؤدي دورًا حضاريا، متميزا، وليس مجرد مُوَفِق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم ببعض، أو بينهم وبين الدين الإسلامي.
الفلسفة والسياسة
ولد الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بولاية فاراب من بلاد الترك حوالي عام 259 هـ، ونسب إلى بلدته كالعادة في ذلك العصر. ولعل الناظر في حياة الفارابي (ت عام 339 هـ) سوف يلاحظ أن عاملين هما جوهر حياته: أولهما شغفه الشديد بالدراسة والعلم وعدم التوقف عن التحصيل.. وثانيهما التنقل بين البلدان الإسلامية، ليس بهدف جمع المال كعادة الشعراء والعلماء وبعض مفكري ذلك الزمان، بل بهدف دراسة شئون الجماعات والتعرف على أحوال تلك البلدان عن قرب.
وقد ارتبط هذان العاملان عند الفارابي، فأخرج لنا عددا وفيرا من المؤلفات السياسية التي فاق بها كل من عداه من الفلاسفة المسلمين. وكان أهم هذه المؤلفات كتاب “أراء أهل المدينة الفاضلة” ورسالتا “تحصيل السعادة” و”السياسات المدنية” وكتاب “الفصول المدنية”. وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض، حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام، بحيث أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة بدون جانبها السياسي.
ولعل ذلك يبدو أكثر وضوحا في كتابه “أراء أهل المدينة الفاضلة”، ففيه تتلازم فلسفته مع تحليلاته السياسية. فهو يبدأ من تحليله لضرورة الاجتماع البشري، من حيث “إن الإنسان اجتماعي بطبعه”، ليصل إلى أن قيام المجتمع “ظاهرة طبيعية وليس شيئًا مصطنعًا يقوم على القهر والقوة”.
ولقد نجح الفارابي في تمييزه للمجتمعات الإنسانية، حيث أوضح أن منها مجتمعات “كاملة” تفي بكل احتياجات الفرد، ومجتمعات “ناقصة” لا تفي بتلك الاحتياجات؛ ولعل هذا التقسيم للمجتمعات يوضح مدى دقة الفارابي في تحليلاته للمجتمع السياسي. إذ أن ما أسماه بالمجتمعات “الكاملة” هي ما يتحقق فيها التعاون الاجتماعي، ويتوافر فيها الإنسان الفرد على “كل” احتياجاته، على عكس المجتمعات “الناقصة”.
ومن ثم، فإن الدعامة الأساسية التي رآها الفارابي في “المدينة الفاضلة”، هي التعاون بين أهلها، الذي يشبه التعاون بين أعضاء الجسد الواحد؛ فإذا كان أهم أعضاء الجسم هو أكملها، لأنه يرأس كل ما دونه –وهو عند الفارابي القلب– فإن الأمر نفسه ينطبق على رئيس المدينة، فهو أكمل أفرادها وأهمهم، ودونه يتدرج الأفراد من مرؤوسين له مباشرة إلى مرؤوسين غير مباشرين له، وهكذا.
الحاكم الفيلسوف
ولا يصلح للرئاسة -في رأي الفارابي- إلا إنسان تحقق فيه شرطان: أحدهما كمال الاستعداد لها بحسب الفطرة والطبع؛ والآخر كمال التهيئة لها بما يكتسبه من ملكات إرادية. وهو ما يعني أن الحاكم عند الفارابي، إما أن يكون بمؤهلاته الروحية نبيًا -وهذا ما لم يتطرق إليه من قبل فلاسفة اليونان بالطبع- وإما أن يكون بمؤهلاته العقلية فيلسوفا، وهذا ما يتشابه فيه مع أفلاطون الذي دعى إلى الحاكم الفيلسوف في جمهوريته.
وأهم ما يمكن ملاحظته بخصوص “المدينة الفاضلة” هو التوحد الذي يقيمه فيلسوفنا بين “المدينة الفاضلة” وبين “الملك الحكيم”، فوجود كلاهما يعني وجود الآخر، وبالتالي فإن المدينة تتعرض للهلاك إذا لم يوجد على رأسها هذا “الحكيم” (النبي أو الفيلسوف). والعكس في نظره، بالطبع صحيح.
ومن هنا ذلك التقابل والتضاد الذي أقامه الفارابي بين المدينة “الفاضلة” وبين المدينة “الجاهلة”، بين آراء هذه وآراء تلك، بين شقاوة هذه وسعادة تلك. وبما أن في العلم درجات، وفي الجهل درجات كذلك، فإن المدن الفاضلة والمدن الجاهلة هي الأخرى درجات. فالمدن الفاضلة تتفاوت بتفاضل رؤسائها، وكذلك الحال في المدن الجاهلة.
ومن هنا أيضًا بالإمكان القول إن الفارابي يبدو متأثرا بأفلاطون؛ ففكرة “الحاكم الفيلسوف” فكرة أفلاطونية معروفة، واشتراط الحكمة في الحاكم هدفه الأساسي تمكين المدينة من مُشَرِّع يحكم بالعدل ويسن القوانين الملائمة لمعطيات العصر وتطورات الزمن.
ورغم أن الفارابي كان قد تغذى من الفلسفة اليونانية، لأنها كانت تمثل بلا شك ثقافة ذلك العصر؛ ورغم أن الفارابي كان قد أخذ عن أفلاطون بعض أرائه السياسية والاجتماعية.. إلا أنه يبقى من الصحيح، رغم هذا وذاك، أن الفارابي لم ينقل هذه الآراء نقلا عن أفلاطون. فهو لم يحاول تحديد أشكال الحكومة كما فعل أفلاطون، ولم يذكر طريقة اختيار الرئيس (الملك الحكيم) ولا طريقة تعليم وتثقيف أهل المدينة.
بل إن الفارق بينهما يظل كبيرا، حينما نتذكر أن جمهورية أفلاطون إنما هي جمهورية الأحرار، جميع مواطنيها من اليونان، ولا يدخل فيها العبيد إلا كأدوات لها، ولذلك فهي لا تخرج عن بلاد اليونان كي لا ينضم إليها البرابرة (أي أهالي البلاد الأخرى). أما مدينة الفارابي، “المدينة الفاضلة”، فإنها تتسع وتتسع حتى يمكن أن تكون دولة عالمية ومجتمعا أكبر لا تتم السعادة القصوى إلا فيه. إذ المدينة الفاضلة، كما يقول الفارابي: “تشبه البدن الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم الحياة… وعلى حفظها”.
الاجتماع المتمدن
وفي ما يبدو.. يُقدم الفارابي نظرية في الحكم يقترن فيها التصور الديني والأخلاقي الإسلامي بالمرونة السياسية واسعة الأفق الفلسفي لصاحبها.
ولعل ذلك يتبدى بوضوح إذا لاحظنا إن الفارابي لا يقصد بالمدينة ما نفهمه نحن اليوم من هذه الكلمة؛ إذ إنه يقصد بالمدن أشكال الاجتماع وأنواع الروابط الاجتماعية والفكرية والدينية التي تجعل الناس فئات وطوائف ودولا.
إن الفارابي عندما يُقرر أن الإنسان اجتماعي بطبعه، لكونه لا يستطيع بنفسه كفرد توفير ما يحتاجه من غذاء وملبس ومسكن، يُلاحظ أن اجتماعية الإنسان هذه يمكن النظر إليها من خلال كونه أحد أعضاء المجموعة البشرية كلها، أو فردا من أفراد أمة أو مدينة، يتعاون فيها مع غيره من أمثاله لتوفير ضروريات الحياة.
وهكذا، يبدو من الخطأ القول بأن الفارابي قد تصور “دولة عالمية” أو أنه دعا إلى وحدة الجنس البشري كله؛ مثلما أنه من الخطأ الادعاء بأنه تحدث عن “المدينة” لا عن الدولة أو الأمة، تحت تأثير الفكر اليوناني ونظام المدن اليونانية.
إن “المدينة” في تصور الفارابي هي “الاجتماع المتمدن” ـ إذا جاز التعبير ـ الاجتماع الذي يربط الناس بروابط اجتماعية وفكرية ودينية معينة. وهذا بالضبط ما يُشير إليه عنوان كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” فموضوعه إذا، عند الفارابي هو “الآراء” أي الروابط التي تجعل الناس يمارسون حياتهم بشكل أفضل.