“قلت اكتمل.. كالبدر علَ دماك تسري في الوريد/ يجري مع النهر القصيد/ وأنت تحمله على كفٍ طريد. قلت: اكتمل.. فإن بعثك إن تأخرَ/ سوف تنكره جموعٌ لم تعانق صوتك الأزلي/ في غيم شاطئك الوحيد. يا حارسَ النيل، إن تُغْمِد نصالك ها هنا؛ عجِّل فإنَّا / قد أوهنتنا رِعدَة الألم البليد/ وناوشتنا جراحٌ أسهدتك ونالها منك الوعيد/ هذا رجاؤك قد تحقق غير أنَّا/ قد يغفر النيل لنا السفر البعيد.
صباح اليوم أطفأ رمضان عبد العليم جذوة الألم اللاهبة؛ وأسرج خيل قصيدته وارتحل؛ ليس كارتحال شاعر عادي تطارده المعاني وتعصف به الأمنيات؛ بل رحيلٍ يليق بفارس لم يساوم، ولم يرق ماء الممانعة على أعتاب المتجبرين، إنما يرحل أمثال رمضان عبد العليم؛ رحيل الغيم إذا تداعبه نسائم التوق للفكاك من أسر التعلق بالزوائل.
لولا أنّا نكتب حتى لا يقتلنا الحزن أحياءً؛ لكان الصمت بنا أولى في حضرة لحظة كتلك اللحظة التي تجتمع فيها فداحة الفقدان مع إدراك شبه مكتمل لما ينطوي عليه رحيل كهذا الرحيل من انهدام لما تصدّع بقوة من جدران احتمالنا لأمواج التردي العاتية التي اجتاحتنا مؤخرا على كل الأصعدة.. وكأن الحارس الجنوبي الصلب.. في تلك اللحظة التي أفلت المقبض من يده؛ أراد أن يحيلنا جميعا إلى المواجهة الصارمة المؤجلة؛ لكل الحقائق التي تكشفت له منذ وعى مبكرا في زمن الحلم العربي، وآمال الوحدة والتحرير.. إلى أن تيقن أن “عطش الفرات” ليس إلا تمهيد لإسكات النيل وإنهاكه قبل حبسه عنا.. لكن رمضان عبد العليم لم يكن نبيئا، ولا عرّافا.. هو فقط كان ترجمانا لأشواق صادقة؛ جعلته مُفَوّه القلب؛ طلق اللسان.. ينشد في الناس فيأسر الأرواح.. وهو لا يحب أن يكبِّد البسطاء عناء قراءة الشعر.. فالشعر عنده حُسن إلقاء يعرف مكانه إلى القلوب؛ أما الدواوين فهي للتوثيق نتركها للتاريخ شاهدة على أننا لم نتواءم ولم نصمت في أزمنة الأثمان الباهظة لكلمة الحق.
كثير من مبدعي جيل رمضان عبد العليم غادروا مدنهم وقراهم إلى القاهرة حيث توجد الفرص، وحيث تجتمع “الشِلل” الأدبية، حيث تلعب المصالح والعلاقات الشخصية دورا كبيرا في تلميع المبدعين، وإيصال الكثيرين منهم لأبعد مما كانوا يحلمون.. لكن رمضان عبد العليم لم يغادر أرمنت الواقعة جنوب الأقصر على بعد نحوٍ من عشرين كيلو متر .. على الأرجح لم يكن الأمر اختياريا.. فلقد كانت مصر هناك بحضورها الطاغي المكتمل؛ تمتنع على فراق العاشقين بصورة تقترب من الأسر.. وكان هناك النيل يرهف السمع لشعرائه بصدق – نيل القاهرة أصابه الصمم منذ زمن- تلك الدائرة المحكمة من أسباب البقاء لم تترك لرمضان عبد العليم الفرصة للاختيار.. بدا الأمر كاقتلاع شجرة عميقة الجذور.. ذلك الألم الذي يُحدثه انتزاع قلب من مأمنه.. ناهيك عن تلك المسئولية التي يحسها مناضل بقيمته حفظ للجنوب تراثه؛ رغم أن انتماءه امتد لآخر حدود الوطن العربي.. وليس ثمة تعارض بين هذا وذاك؛ بل إن غير ذلك هو ما يجب أن يبعث فينا الدهشة والعجب.
يربط رمضان عبد العليم زمن الخذلان العربي ببداياته الأولى بـ “إمامة يزيد بن معاوية” واستشهاد الإمام الحسين.. متتبعا خط الدم العربي حتى ضياع فلسطين وظهور الكيان الصهيوني اللقيط في زمن الخنوع والتآمر العربي الذي وصل اليوم إلى التبجح بالخيانة والمجاهرة بالفعل التطبيعي الفاضح.
“في شعر رمضان عبدالعليم تظهر دائما تلك المراوحة بين زمنين أحدهما كارثي والآخر مثالي نموذجي. وتظهر تلك المراوحة بشكل قوي في رمزية النجع الصعيدي المثالي، ورمزية المدينة الكارثية. وهو في ظل تلك المراوحة يعتمد على تراث محلي/ صعيدي وعربي تتعدد مظاهر توظيفه للكشف عن تجليات عشقه لهويته، وانفعاله بجروحها وآلامها، ومحاولات خلق قصيدة تجسد نظرته للشعر والشاعر”.
أعطى الجنوب لرمضان عبد العليم مكانة كبرى في قلوب أبنائه.. فكان شاعرهم الأثير الذي دوى صوته في المحافل الشعرية، وترددت قصائده في أسماع المحبين منذ البدايات وحتى “التحيات” التي جعلها شاعرنا للنيل وصدرت في ديوان في العام الماضي.. وهو يخاطب النيل المعلم الذي يرفق بأبنائه فيمنحهم حكمته في مواجهة المحن، والصبر على ظلم وجور البغاة.. “يظهر النيل جماليا في هيئة مجازية تجسّده في كيان حجري يتجاوز ناطحات السحاب.. كما يظهر بوصفه صانع الهوية، والذي يقوم بتشكيل الملامح الخارجية والداخلية بداية من نحت الوجوه الصخرية، مرورا بخلق اللغة العذبة، وصولا إلى فنون التعامل مع الحياة”.. وفي مقابل ماء النيل الذي يجرى من الجنوب إلى الشمال مانحا للحياة أسبابها- يجري دم الشاعر من النيل إلى الفرات، لتتجدد التضحية ويتجدد الفداء بامتداد تاريخنا العربي الحافل بمشاهد مصارع الأبطال.. وخذلان الشعوب واستيلاء الجبناء دائما على عوائد الدماء الزكية دون استحقاق.
يقول رمضان عبد العليم مخاطبا نهر النيل:
عَلمتنا حِلو الكلَم/ لما نتحدثْ/ وإن نحيد نتلوثْ.
علمتنا الصّبرْ/ وإن عَلَى شكل الخُوف
المتأصِّل..المتوصِّل أعمار.. أعمار
كأنِّ قلبي متنصِّل/ أو أحيانًا باتريث
علمتني التّحايل.. وانتظار المايل يستقيمْ
كونك مُقِيمْ/ وكونِي باعُود لكْ/ من أيّ دَرب
عدَّتْ عَلَى شطوطك الآلهةْ
شوف كام رَبّْ
كام حُبّْ
واللِ خَلَقَك يِحمْيك
بدمايْ
أَنَا بيك بأعرفها سَمايْ.
بطاقة تعريف
الاسم: رمضان عبد العليم
تاريخ الميلاد: 8 يوليو 1954.
مكان الميلاد: أرمنت – الأقصر.
شاعر عامية ومناضل سياسي (قومي).
دواوينه المنشورة:
“الفاتحة للنيل”، و”مشاوير عبد الصبور”1996.
“عطش الفرات” و”الغيم الغريب” و”الصلاة على الأسرى” 2009.
“التحيات للنيل” 2021.
انتمى الفقيد للتيار الناصري مبكرا، وآمن بالقومية العربية، وناضل ضد نظام مبارك وشارك في تأسيس حركة كفاية.. خاض انتخابات مجلس الشعب عقب ثورة يناير، ورشحته القوى الوطنية لتولي منصب محافظ الأقصر.