مختارات

الجنرال “شتاء” مقامرة “بوتين” الكبرى

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن عمان

حسين عبد الغني

 

 

 

تماما مثل لعبة الروليت التي اخترعها أجداده الروس يضع لاعب الجيوسياسة الماهر فلاديمير بوتين المسدس ذا الطلقة الواحدة مغامرا بكل شيء.

الطلقة الوحيدة في مسدس المقامرة الاستراتيجية الكبري التي ينتهجها بوتين منذ شهرين في الحرب مع أوكرانيا هي “الجنرال شتاء”.

لعبة الانتظار والكمون، واتخاذ موقف الدفاع المتحرك، وترك الأوكرانيين يحققون انتصارات متتابعة ولكن صغيرة على الأرض حتي يحضر “جنرال” الشتاء الروسي الرهيب الذي جربه أجداده عبر التاريخ وقضوا به على كل غاز بما في ذلك أخطر زعيمين عرفتهما أوروبا وهما نابليون وهتلر.

هكذا يخطط بوتين اعتمادا على حسابات معقدة. وهي حسابات دقيقة ولكنها في نفس الوقت تحتوي على درجة عالية من المخاطرة تصل إلي حد المقامرة إذا تمكنت واشنطن وحلفائها الغربيين، الخصم الحقيقي، ولكن بالوكالة الأوكرانية في الحرب ضد موسكو من تغيير دفة كل عنصر يعتقد بوتين أنه يعمل لصالحه فتنجح في جعله يعمل ضده .

أولا: لفهم الموقف السياسي الراهن لبوتين لا بدّ من الإشارة إلي أسباب أوامره لقواته بالوقفة التكتيكية المفاجئة التي بدت بالمقاييس العسكرية غير مفهومة، وهي الوقفة التي منعته من إكمال تقدمه العسكري بعد النجاحات الضخمة التي كانت مكنته من الاستيلاء على معظم دونباس وامتناعه بالتالي عن حسم كبير للحرب التي كان يدعمها، وقتها، الترنح الكبير الذي بدت عليه القوات الأوكرانية.

الجيش الروسي في دونباس
الجيش الروسي في دونباس

كقائد أعلى للجيش الروسي يتحمل بوتين مسؤولية ما إذا كان قد ارتكب خطأ عسكريا فادحا بذلك التوقف أم لا، ولكنه كرئيس لروسيا كان قرار الاكتفاء بانتصارات ربيع وصيف هذا العام في دونباس في لوهنسك ودونتيسك هو القرار أو الحل الوحيد الذي يتفق مع خبرة رجل “الكي جي بي” السابق الذي عاصر بمرارة سقوط الاتحاد السوفييتي وانتصار الغرب وهيمنته المطلقة علي العالم.

فهذه التجربة تقضي بأن سببا رئيسيا لانهيار الاتحاد السوفييتي السابق هو انجراره غير المسؤول إلى لعبة الاستنزاف الاقتصادي في سباقي الفضاء والأسلحة النووية والذي كان اقتصاد أمريكا الغني والمتفوق “اقتصاد ولاية كاليفورنيا الأمريكية لوحدها يكاد يقارب مجمل الاقتصاد الروسي بأكمله” مؤهل لتحمله بينما يعجز عنه اقتصاد الاتحاد السوفييتي الأقل تقدما وغنى.

أدرك بوتين من التصعيد الجنوني في اتجاه حرب صفرية من قبل حكومة بايدن والتحالف الغربي في دعم كييف بالأسلحة والمال عودة الغرب إلي الحيلة القديمة أو الفخ سابق التجهيز باستنزاف اقتصاد الدولة الروسية والذي نالت أصلا من قوته ولو جزئيا العقوبات الاقتصادية الغربية غير المسبوقة في التاريخ.

للتدليل فقط على فخ الاستنزاف الذي قد يؤدي إلي السقوط الروسي على غرار ما حدث في الاتحاد السوفييتي والذي حاول بوتين تفاديه نشير فقط إلى أن أمريكا لوحدها دون باقي الحلفاء الغربيين التزمت أو أعطت لأوكرانيا مساعدات عسكرية قدرت في هذه الشهور القليلة بنحو ١٦ مليار دولار كان على بلد حليف لواشنطن مثل مصر منذ اتفاقيات كامب ديفيد ١٩٧٨ أن يجلس نحو ١٢ عاما حتي يحصل عليها.

بايدن
بايدن

من الناحية العسكرية المباشرة يعترف الجميع بما فيهم الروس أن الأمريكيين والحلفاء الأوروبيين في إطار المساعدات الأمريكية المباشرة أو استراتيجية التدوير الأطلسي “إرسال أسلحة متقدمة للغاية لبولندا وغيرها من دول جوار كييف، على أن تقوم بولندا وهذه الدول بدورها بإرسال أسلحة في ترسانتها أقل حداثة لأوكرانيا” قد تمكنت من تضييق الفجوة بين موسكو وكييف مع استمرار ميزة الأخيرة النسبية في التفوق في إعداد الجنود الأوكرانيين على الروس كون أن الحرب تدور على جزء من أراضيهم.

شملت هذه الأسلحة الغربية مع تفوقها النوعي المعروف تعزيزات هائلة للجيش الأوكراني في المدفعية والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي التي تتميز موسكو تقليديا بتفوق كبير فيها، فتمكن الجيش الأوكراني من انتزاع أكثر من ألف كيلو متر في الأسابيع القليلة الماضية كانت روسيا قد سيطرت عليهم في وقت سابق من هذا العام .

الحسابات السياسية لبوتين في انتظار وحش الشتاء المفترس هي: انهيار الموقف العدائي الأوروبي لروسيا بسبب سياسة خفض إمدادات الطاقة “نحو نصف واردات أوروبا من الغاز والنفط تأتي من روسيا” مع قدوم فصل الشتاء وتآكل مخزونات الطاقة الأوروبية إلى درجة قد تؤدي إلى تجميد التدفئة في البيوت الأوروبية وإلى توقف قسم هائل من الصناعة الأوروبية. خفضت روسيا حتى الآن هذه الإمدادات بطريقة محسوسة وقد تصل إلى وقف كامل لهذه الإمدادات لتركيع أوروبا على قدميها إذا استمر الدعم الغربي لكييف في التصاعد غير المحسوب، وإذا استمر الموقف العسكري في التدهور لصالح القوات الأوكرانية، خاصة وأن روسيا نجحت جزئيا في تصريف جزء مهم من صادراتها من الطاقة إلى الصين والهند وآخرين.

خطوط الغاز الروسية
خطوط الغاز الروسية

ويعول بوتين هنا على جنرال الشتاء في إحداث تطورين محتملين:

– أن يؤدي انهيار مخزون الطاقة واستمرار الارتفاع المذهل في أسعاره وفي معدلات التضخم الأوروبي إلى تذمر شعبي واسع النطاق على الحكومات الغربية في صورة احتجاجات واضطرابات اجتماعية قد ينهي عمر بعض هذه الحكومات وهو تذمر بدأت بعض ملامحه فعلا في مظاهرات شعبية جرت في بلد مثل ألمانيا أكبر المتضررين اقتصاديا ومعيشيا من المواجهة الغربية الكلية الحالية مع موسكو.

– أن يؤدي هذا الجنون الاستراتيجي الواصل الآن في بعض الدوائر الأمريكية والبريطانية، على الأقل، بأنه يمكن لأوكرانيا أن تلحق هزيمة عسكرية بروسيا مع الأزمات الاقتصادية وانهيار الصناعة والتدفئة في أوروبا إلي تفكك التحالف الصلب الذي بناه بايدن مع شركائه الأطلسيين وهوائها ما بدأت بعض ملامحه في ظهور موقف إيطالي جديد مثله تصريح رئيس الوزراء السابق جوزيب كونتي أنه في الوقت الحالي، هناك حاجة إلى “شريك داخل الحلف الأوروبي الأطلسي ليكون قادرا، من خلال الجهود الدبلوماسية، على التحضير لإحداث انعطاف في محادثات السلام”، منوها بأنه يمكن لإيطاليا أن تلعب هذا الدور.

– شدد كونتي على ضرورة الحوار والمناقشة المفتوحة لهذه القضية بين حلفاء الناتو: “نحن بحاجة إلى تحقيق تحول في هذا الصراع وتحديد السيناريو الجيوسياسي الذي نود أن يكون في العقود القادمة. هل تفضل تقسيم العالم إلى قسمين؟ من ناحية جبهة الغرب، ومن ناحية أخرى روسيا والصين والهند وبقية العالم بأغلبية سكانية وقوة اقتصادية مركزة؟.. ولمنع ذلك من الضروري العمل بذكاء على الاستراتيجية. فالاستراتيجية الحالية تقودنا إلى تصعيد عسكري غير محدود. وأجرى المستشار الألماني شولتز لأول مرة بعد انقطاع دام شهورا اتصالا مع بوتين استمر ٩٠ دقيقة كاملة وهو وقت قياسي في اتصالات قمة سياسية من هذا النوع وهي مباحثات رجح الخبراء انه عبر عن إدراك متزايد لمختلف الأطراف المعنية والمتورطة أنها كلها خاسرة في الواقع، ومتضررة من طول أمد الحرب، لذا تسعى للتوسط للركون لخيار التفاوض، الذي سيكون الخيار النهائي مهما طالت الحرب وتعنت المتصارعون”.

– نجاح روسيا النسبي في خلق نزاع داخل الصف الأوروبي بحرف بعض الدول إلي موقف متردد وغير مرحب بالاندفاع في العداء التام لموسكو مثل المجر واليونان وبلغاريا وصربيا مع وعود باستمرار في إمدادات الطاقة الروسية لهم.

– الحسابات العسكرية لبوتين هي كالتالي:

– استغلال الشهور الحالية حتى اكتمال وصول الوحش الشتائي في إعادة بناء القوات الروسية المنهكة وإعادة استعراض أسلحتها وذخائرها واسترداد التماسك بين مكوناته القتالية مثل ترضية رئيس الشيشان قديروف وقواته العسكرية المتميزة بعد أن انتقد الأخير تباطؤ بوتين في الجبهة العسكرية وعدم الإجهاز على الجيش الأوكراني الجريح قبل شهور.

– شعور الأوكرانيين بالخطر الداهم على كيان دولتهم نفسه إذا استمروا في توسيع نطاق المعارك سواء بسبب الضربات الموجعة التي وجهتها موسكو في الأيام الماضية للبنية التحتية خاصة الطاقة في أوكرانيا والتي أغرقت بعض مناطقها في الظلام التام لساعات طويلة أو بسبب عدم وجود الاحتياطات العسكرية الكافية لمواصلة التقدم إذ تتباعد الخطوط القتالية وتطول بصورة تهدد الامدادت اللوجستية وقد تمكن الجيش الروسي من تمزيقها مرة أخرى.

– أن تأخذ واشنطن على محمل الجد التهديدات الروسية الأخيرة من أن تواصل تقديم أمريكا وبريطانيا وباقي الحلفاء لأسلحة ذات طبيعة هجومية قد تجعل واشنطن طرفا مباشرا في الحرب وهو تهديد ضمني بخطر أقدام موسكو على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لمنع هزيمة هي بالنسبة لبوتين ولروسيا الجديدة التي صنعها على عينيه كطائر الفينيق الذي قام من تحت رماد الانهيار السوفييتي الشامل هزيمة مستحيلة لا يمكن تحملها حتى ولو كان البديل هو بديل “شمشوني” الطابع “عليّ وعلى أعدائي” حتى باللجوء إلى النووي.

– وهنا لا يكون أمام أمريكا وروسيا وكل الأطراف سوى وقف رفض زيلينسكي التفاوض واعتماد هذا التفاوض سبيلا لإيقاف الأذى الذي يلحق بالجميع وليس روسيا فقط خاصة مع تنبؤات البنك الدولي المخيفة بتسبب حرب أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا في تباطؤ وركود مقلق الاقتصاد العالمي بدا فعلا في أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي أهم ٣ قوى اقتصادية محركة للنشاط الاقتصادي الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock