ثقافة

مشاعل إسلامية (30): ابن الأزرق.. و”طبائع الملك”

لا تعود أهمية التعرف على ابن الأزرق (831 – 896 هـ) فقط لأنه لا توجد إلى الآن دراسات متعمقة حوله، أو حول كتابه الشهير “بدائع السلك في طبائع الملك” ولكن أيضا لأن عصر ابن الأزرق هو عصر تغيرات كبرى في حدود العالم الإسلامي.

كان هذا العصر، هو عصر سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، وسقوط الأندلس في أيدي الإسبان. وهو ما يعني أنه العصر الذي حصل فيه توسع للدولة الإسلامية من جهة شرقي أوروبا، وتراجعها من جهة جنوب الغرب.

رغم ذلك، فإن ما يمكن ملاحظته بشأن الخريطة الداخلية للعالم الإسلامي، في عصر ابن الأزرق (القرن الخامس عشر الميلادي) لم يطرأ عليها تبدّل كبير: دول ودويلات وإمارات تتنازع وتتهادن بحسب منطق القوة، موغلة في الابتعاد عن نموذج “الخلافة الإسلامية” (الواحدة الجامعة).

ملاحظة أخرى لابد من الإقرار بها، وهي: أن الوضعية العامة للعالم الإسلامي في علاقته “الحربية” مع العالم الأوروبي، قد أثرت من خلال ثقافة ابن الأزرق الفقهية، وحياته في عاصمة “الدولة النصرية”، في تأليف كتابه “بدائع السلك..”، وبخاصة فيما يتعلق بالجهاد والحرب ونظرية “واجبات السلطان”.

علم الاجتماع السياسي

وهكذا.. فقد كتب ابن الأزرق كتابيه “بدائع السلك” و”روضة الأعلام” في أكثر الفترات الزمنية حرجا من تاريخ المسلمين في الأندلس، حيث كان خروجهم منها، ومن هنا تأتي أهميتهما. هذا، بالإضافة إلى أنهما يأتيان تأليفا وتوليفا للكثير من النصوص التراثية في مختلف العلوم الإسلامية.

وبالرغم من تولي ابن الأزرق لوظيفة القضاء طوال حياته، حيث تولى قضاء مالقة، ووادي آشي، وغرناطة، وأخيرا قضاء القدس الشريف قبل وفاته حيث دُفن.. وبالرغم أيضا من قيامه بالإفتاء طوال تلك الرحلة الحياتية، حيث ذاعت فتاويه، وتناقلها الفقهاء في تصانيفهم.. رغم هذا وذاك، فإن تميز ابن الأزرق يتجلى واضحا في مؤلفاته القليلة والنادرة، تلك التي تكشف عن عمق رؤيته العلمية والحضارية؛ حيث أكد بمؤلفه “بدائع السلك في طبائع الملك” استمرار المدرسة الأشعرية في علم الاجتماع السياسي، وفي تطبيق المنهج الاستقرائي التجريبي على  الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.

بيد أن التأثير الأكبر في تأليف هذا الكتاب (السياسي)، كان تأثير ابن خلدون. وقد أصاب المقري، حيث قال في كتابه: “نفح الطيب”، عن كتاب ابن الأزرق: “إنه كتاب مفيد، يشتمل على تلخيص لكلام ابن خلدون، مع زوائد كثيرة”. لكن هذا لا يمنع الإقرار بالجهد التأليفي الضخم الذي بذله ابن الأزرق، خاصةً وأنه قال في توطئة كتابه: “قصدت إلى تلخيص ما كتب الناس في الملك والإمارة والسياسة”.

والواقع أن كتاب ابن الأزرق لا يقل في تكامله، ولا في منهجيته، عن مقدمة ابن خلدون، والتي يؤسس فيها هذا الأخير لعلم الاجتماع قبل علماء الغرب بكثير من القرون. وإذا كان ابن الأزرق قد استند على “المقدمة”، وهي لازمة منهجية لمفكر توفى بعد ثمانين سنة من وفاة ابن خلدون، إلا أنه ـ أي ابن الأزرق ـ كان قد خطا بالنظريات الاجتماعية السياسية لدى المسلمين، خطوات أوسع؛ بل وصل بهذه النظريات إلى مرحلة من “النضج” من حيث إنه مزج بين نظريات ابن خلدون ونظريات أخرى سياسية إسلامية، تستند على التوجه الخلدوني السياسي، وهو “علم الأخلاق السياسي” وهو العلم الذي لم يحظ عند ابن خلدون بمكانة واسعة؛ إلا أن ابن الأزرق رأى أن يضع له مكانا بارزا في علم الاجتماع السياسي، فحاول التوفيق بين نظريات ابن خلدون ونظريات ابن رضوان والطرطوشي.

أضف إلى ذلك، أن ابن الأزرق كان قد تميّز بالأمانة العلمية الفائقة، حيث يكشف لنا عن مصادره ومصادر مقدمة ابن خلدون في الوقت نفسه، على عكس الأخير الذي كان “كتومًا” إلى حد كبير. لذا نرى ابن الأزرق، وهو أولا وقبل كل شيء فقيه أخلاقي، وراوية حديث متثبت، وقاض من قضاة المسلمين، يذكر مصادره بأمانة وصدق، ويعبر عن آرائه هو بالصيغة الشهيرة: “قلت”.

وفي ما يبدو، فقد كانت رؤية ابن الأزرق أن يورد النص الخلدوني، عبر تفسيره والتعليق عليه بأقوال آخرين، مؤيدين أو مدحضين، ثم بآرائه هو. لذلك يرى الكثير من الباحثين أن علم الاجتماع السياسي لم يتوقف عند ابن خلدون، بل نجده ينضج ويخصب ويزداد غنى عند ابن الأزرق، كما هو واضح في كتابه “بدائع السلك”.

أيا يكن الأمر، ورغم الفوارق النوعية بين الاثنين، فإن تأثير ابن خلدون يتبدى واضحا في ثنايا كتاب ابن الأزرق عموما؛ وبشكل خاص في المعنى الذي تضمنته لفظة “الأمة” كما استعملها ابن الأزرق. إذ من الواضح تماما أن ابن الأزرق استعملها بالمعنى الاجتماعي التاريخي فيما عدا بعض المواضع النادرة، التي استعملها فيها بالمعنى الديني.. بل إن بعض النصوص التي ترد فيها لفظة الأمة، هي في معظمها نصوص ابن خلدون نفسها، بحرفيتها، أو مع بعض تصرف. منها مثلا “إن الأمم الوحشية أقدر على التغلب”؛ ومنها “إن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة والجيل الغالبين عليها أو المختطين لها” ومنها أخيرا “إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك”.

الأمة والملة الإسلامية

ومن الأمور التي تستوقف قارئ ابن الأزرق، هو استعماله لفظة مِلّة بدلا من لفظة أمة في الحديث عن الإسلام وجماعة المسلمين. وهو ما يعني أن المسلمين، في نظرة ابن الأزرق، يشكلون ملة ولا يشكلون أمة؛ إذ إن الرابط الموحد لهم هو “العقيدة القرآنية”، وفيما عداها فهم غير مُوَحَّدِين.

والخلفية التاريخية التي يعتمد عليها ابن الأزرق في هذا الاستعمال، هي نفسها الخلفية التي نجدها عند ابن خلدون، والتي يبرز فيها العرب من جانب، والبربر من جانب آخر، والعجم من جانب أخير. وهو ما يؤكد من جديد على تأثير ابن خلدون الواضح على ابن الأزرق.

صحيح أن ابن الأزرق يقول بما قال به مفكرو الإسلام السياسي، من أن: “المِلَّة لابد فيها من القائم بها عند غيبة نبيها، يكون فيها كالخليفة عنه في حملهم على ما جاء به من الأحكام والشرائع”؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أيضا أنه يرى بوضوح المسافة التي تفصل بين مثال الخلافة (الواحدة الجامعة) وواقع الدول في دار الإسلام؛ بل ويعلن “إن شرط وحدة الإيمان، بحيث لا يكون هناك غيره، لا يلزم مع تعذر الإمكان”.

ولعل السبب في مثل هذا القول، هو طبيعة المرحلة التاريخية التي عاش فيها ابن الأزرق، على وجه العموم، وتنقلات حياته “الشخصية” بوجه خاص.

لقد عاش ابن الأزرق في الأندلس، وعمل في القضاء، وأصبح قاضي الجماعة. ويبدو أن السلطان “النصري” كان يثق به كثيرًا، فقربه واستعان به في سياسته وأرسله إلى العالم الإسلامي، لكي يستنفر حكام المسلمين حتى ينصروا غرناطة على رد الحصار الذي كان الإسبان يقيمونه حولها؛ فرحل إلى فاس، ثم إلى تلمسان وتونس، ثم إلى مصر، ولكنه لم يحصل على شيء. وبعد قيامه بالحج، عين قاضيًا على “القدس”، لكنه مات بعد أشهر، وسقطت غرناطة في أيدي محاصريها في العام التالي (897 هـ – 1492 م).

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock