بداية.. لنا أن نؤكد على أن إحدى أهم معجزات القرآن الكريم، هي أن النص واحد لا يتغير، إلا أن قراءته تختلف تبعا للتركيب والفارق النوعي، في تطور العقل الإنساني.. إذ لكل حالة عقلية إسقاطاتها الذهنية الخاصة بها على القرآن الكريم، تبعا لمبادئها المعرفية وأشكال تصورها للوجود؛ أما النص فهو ثابت، ليس على مستوى الكلمة فقط، ولكن على مستوى الحرف.
فلكل حرف، في التنزيل الحكيم، له وظيفته “الألسنية” و”الوظيفية” في الإنشاء القرآني، الذي هو ـ ولا ندري كيف يمكن التأكيد على أهمية هذه النقطة ـ ليس مجرد بلاغة فقط؛ فالاستخدام الإلهي للمادة اللغوية، ولأي مادة في الكون، يختلف عن الاستخدام “البشري” لها، مع وحدة خصائص المادة.. بمعنى: حين يستخدم الخطاب القرآني “اللسان العربي المبين”، فإنه يستخدمه وفق مستوى إلهي يقوم على الإحكام المطلق؛ فلا يكون في القرآن مترادفات توظيفا ضمن جناس وطباق؛ بل حيث تتحول المفردة إلى “مصطلح دلالي” متناهي الدقة.
فلكل كلمة في التنزيل الحكيم دلالتها المفهومية المميزة، خلافا للاستخدام البشري البلاغي العفوي لمفردات “اللسان”.
وهذا لابد أن يدفعنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، لمحاولة تلمّس دلالة أي مصطلح قرآني، مثل مصطلح “النسخ” وهو مناط اهتمامنا.. هنا.
آية سورة الجاثية
جاء مصطلح “نسخ” في آيات التنزيل الحكيم، في أربعة مواضع: سورة البقرة [106] والأعراف [154] والحج [52] والجاثية [45] ومن قبل في مقالنا السابق المنشور على هذا الموقع بتاريخ 25 سبتمبر 2022، وصلنا إلى القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم النسخ؛ وذلك من خلال التمييز القرآني الدقيق بين “نَسْتَنسِخُ” و”سَنَكْتُبُ” من حيث الدلالة.. ففي قوله سبحانه وتعالى: “أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا • أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا • كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا” [مريم: 77-79]، يأتي مصطلح “سَنَكْتُبُ” ـ كفعل مستقبلي ـ مُتعلقًا بالقول، أي لـ”مَا يَقُولُ”.. وهو ما يتأكد أيضا في قوله سبحانه: “وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا” [النساء: 81]؛ وكذلك في قوله تعالى: “أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ” [الزخرف: 80].
أما في قوله سبحانه وتعالى: “هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 29] يؤكد المولى عز وجل أن “نَسْتَنسِخُ” تختص بـ”مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” أي: إن أولى الملامح الدلالية لمفهوم النسخ، أنه “نسخ أعمال الأمة نسخًا” بمعنى أنه تسجيل وتدوين تلك الأعمال، بشكل يكون معه هذا النسخ صورة طبق الأصل من أعمال الأمة؛ والدليل أن “كتاب استنساخ الأعمال” هذا إنما ينطق بالحق: “هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ”.
وهذه -في اعتقادنا- القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم “النسخ” المفهوم الذي يؤشر إلى “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي”.
آية سورة الأعراف
هذا كان عن آية سورة الجاثية.. حيث يقول سبحانه: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ • وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ • هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 27-29].
أما في آية سورة الأعراف، يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ • وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ” [الأعراف: 153-154]..
وكما يبدو من سياق الآيات التي تسبق هذه الآية، فإن الخطاب القرآني يتحدث عن موسى عليه السلام، حين رجع إلى قومه غضبان أَسفًا “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا…” [الأعراف: 150]، وقد وجد هؤلاء القوم يعبدون العجل “وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا…” [الأعراف: 148]، فتملكه الغضب وألقى الألواح “وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ…” [الأعراف: 150].. ثم عندما اقتنع باعتذار أخيه ومبرراته “قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي…” [الأعراف: 150] هنالك دعا موسى رب العالمين طالبًا المغفرة “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” [الأعراف: 151].
الأهم في سياق الآيات هذا هو التسلسل المنطقي لعودة موسى عليه السلام في أخذ الألواح، بعد أن هدأ وسكت عنه الغضب “وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ” [الأعراف: 154].
وبصرف النظر عن بعض “المرويات” التي تذكر أن “الْأَلْوَاحَ” قد تكسرت، عندما ألقاها موسى، وأن الله سبحانه وتعالى قد أعادها إلى صورتها الأولى؛ أو عن بعض آخر من “المرويات” التي تؤكد أن “الْأَلْوَاحَ” لم يحدث لها شيء، وأنها بقيت على حالها.. بصرف النظر عن هذا وذاك، فإن الواضح أن “وَفِي نُسْخَتِهَا” هي صورة طبق الأصل من أصل الألواح التي كانت مع موسى..
قولنا الأخير هذا يعود إلى سببين.. الأول، وجود حرف العطف “الواو” الذي قام بعطف “نُسْخَتِهَا” على “الْأَلْوَاحَ” وكما هو معروف، في اللسان العربي، لا تُعطف إلا المتغايرات، أو الخاص على العام. ومن المنطقي أن الاحتمال الأخير غير متوافر، بسبب “ال” التعريف في “الْأَلْوَاحَ”، وأن “َهَا” في “نُسْخَتِهَا” ضمير يعود على “الْأَلْوَاحَ” ومن ثم لا يتبقى لدينا إلا الاحتمال الأول أن “الْأَلْوَاحَ” شيء و”نُسْخَتِهَا” شيء آخر.
أما السبب الآخر، فهو قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ • وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ” [الأعراف: 144-145].. وهنا وإضافة إلى الأمر الإلهي لموسى، في دفع قومه إلى الاختيار في الأخذ بأحسنها: “وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا”؛ لنا أن نلاحظ أن الآية الأولى تؤكد أن الله سبحانه وتعالى اصطفى موسى عليه السلام على الناس “بِرِسَالَات وَبِكَلَام”؛ وإذا كان الـ”كَلَام” هو ما جعل موسى “كليم الله”.. فإن “الرسالات”، وهي هنا جمع، هي شيء مكتوب؛ وهو ما تؤكده الآية الثانية “وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ…”.
وبالعودة إلى التمييز القرآني الدقيق، من حيث الدلالة، بين “سَنَكْتُبُ” و”نَسْتَنسِخُ”، الذي أشرنا إليه من قبل؛ يمكننا تطبيق هذا التمييز القرآني، نفسه على سياق الآيات في سورة الأعراف.. ففي قوله سبحانه: “وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ…” [الأعراف: 145] نلاحظ أن “وَكَتَبْنَا” تُرد إلى ما هو موجود أي تم تدوينه “فِي الْأَلْوَاحِ” الذي هو تحديدا: “مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً… وَ… تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ…”.. في حين أن قوله تعالى: “أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا…” [الأعراف: 154]، يشير إلى “نسخة الألواح” التي أخذها موسى عليه السلام، بعد أن “سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ”؛ حيث تُرد “النسخة” عبر الضمير “هَا” إلى “الْأَلْوَاحَ”.
ولعل هذا ما يؤكد من جديد على أن النسخ لا يعني، ولا يمكن أن يعني، “المحو” و/أو “الإلغاء” بل هو مفهوم يؤشر إلى “تدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل من أصل الشيء”.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي”.
فماذا عن آيتي سورة الحج وسورة البقرة(؟).. إنه محور حديثنا القادم، بإذن الله تعالى.