كل كلمة من الكلمات الخمس في هذا العنوان مشكلة. لا أشك في أن الكل يعرف باليقين لماذا تعتبر كلمة “سياسة” مشكلة. فما يصاحبها من اضطرابات عاصفة وخلافات عميقة وخصومات شديدة – يكفي لكي يراها معظم الناس جبلاً ثقيلاً من المشاكل. ومعروف أيضاً لماذا يتحول “الكلام” إلى مشكلة. فحصائد ألسنة الناس هي ما يفرش الطريق بالجمر إلى جهنم. أما “الشرعية” فأم المشاكل. فمن بالله يرضى أو يسلم هكذا ببساطة، وبالأخص في دنيا السياسة بأن ما يقوم به غير شرعي؟
لكن لماذا تمثل كلمتي “عن” و “في” كما وردتا في العنوان مشكلة؟ لسببين. أولاً لأنهما، ولحظهما التعيس، قد وضعتا في جملة واحدة مع كلمات كلها يثير المشاكل. والسبب الثاني لأن “عن” تدل على الإمعان في كشف وتوضيح حقيقة أمر ما، وهو ما تكرهه السياسة بشدة، بينما تشير “في” إلى الإيغال في هذا الكشف وذلك التوضيح.
ولا أحتاج إلى شرح معاني تلك الكلمات لأن المقال ليس بحثاً علمياً يدقق في المصطلحات أو يشرح تطورها وأبعادها. فمعانيها معلومة بدرجة أو بأخرى عند الناس، لكل منهم فيها مذهبه وتعريفه. الكل تقريباً يفهمها لكن على هواه وبطريقته. ومع هذا يجمع غالبيتهم بالبديهة على حد أدنى مشترك في فهم معاني ودلالات تلك الكلمات. وأول ما يعرفه الناس في ربوع كثيرة من العالم سواء بالمعايشة أو السماع أو القراءة والمتابعة أن الكلام في السياسة خطير. لكنهم يعرفون أيضاً أنه وبرغم تلك الخطورة ضرورة لا مهرب منها يتعامل معها كل إنسان بطريقته. البعض يجاهر ويغامر والأكثرية تواري وتداري. وسبب ذلك أنه لا يوجد إنسان حتى وإن كان مهموماً بشئونه الخاصة إلا وينتهي بالكلام في السياسة بقصد أو بدون قصد. فقد يريد دخلاً أعلى، أو مدارس أفضل، أو مواصلات أيسر، أو أمان على الطرقات. قد يحلم بمسكن ملائم وخدمات إدارية ميسرة وضرائب معقولة. قد يريد معاشاً تقاعدياً يغنيه عن السؤال عند كبره، وتأميناً صحياً يخفف عنه عند المرض والشيخوخة. كل هذه الهموم والأحلام والمطالب مع أنها خاصة إلا أنها سياسة في سياسة، أي تدخل في صميم الشأن العام. فالسياسة هي التي تدبر وتوفر كل هذه الأمور وتؤثر في توزيعها وبالتالي في حظوظ كل فرد منها. السياسة باختصار يتأثر بها كل فرد مهما حاول أن يبتعد عنها. ولهذا من الجائز والمشروع بالعقل والمنطق أن يتكلم الناس عنها وفيها. لكن هذا كي ننتبه فقط من حيث المبدأ. أما في التجربة، فالأمر يختلف تماماً إذ يعد كلام الناس عنها أو فيها في مناطق متعبة من هذا الكوكب “خروج على الشرعية”.
والأمر حقاً غريب. إذ كيف يتحول ما هو منطقي وشرعي بالعقل والبديهة إلى اتهام بجرم الخروج على الشرعية؟ كيف ينقلب الجائز بالبديهة والفطرة إلى ممنوع بالقانون والأوامر، أو يوصف الطبيعي والعادي بالمرذول والشاذ؟ فهل الكلام في السياسة شرعي كما تقول الكتب؟ أم غير شرعي كما تقول الحياة؟ يتوقف الأمر على تعريف الشرعية. وتعريفها في الكتب القيمة وفي المجتمعات القويمة التي لا تخالف حكمة الكتب بسيط؛ هو أنها “القبول والرضاء”. قبول الناس بالحكم والحاكم. رضاهم عن أصله وفصله. عن حساباته وعاداته. عن علاقاته وتحالفاته. عما يفعله من تصرفات. هي اقتناع الناس بأنه يعمل ويختار ويقرر من أجلهم وأنه لهم لا عليهم. هي قبولهم واعتزازهم بجهاز الحكم كاملاً بكل مؤسساته وإداراته وهيئاته. هي شعورهم بأن القوانين تسن لأجل راحتهم وسلامتهم وحريتهم. هي يقينهم بأن مرافق الدولة بأكملها مجيرة لهم ومسخرة من أجل تعليمهم وصحتهم ورفاهيتهم. وهذه ليست إلا بعض مظاهر الرضاء الذي هو صميم الشرعية وجوهرها.
وبحسب تلك المعاني، يعتبر الكلام في السياسة وعن السياسة شرعي تماماً. فهل يوجد إنسان إلا ويحلم بحكومة يحبها ويفهمها وتفهمه؟ هل يوجد إنسان يكره الحصول على تعليم أرقى ودخل أعلى وعلاج متقدم؟ هل من فرد يرضى عن قانون يجبي منه بلا حق أو يمنعه من حق أو يفرض عليه التخلي عن حق؟ الإنسان بطبيعته كائن محب للشرعية. مستعد لأن يقبل بالحال إذا اقتنع وأن يمنح رضاه وقبوله للحاكم والحكم والمؤسسات والقرارات إذا رأى ما يخدمه ويفيده. الإنسان طالما أنه يعيش في وطن لا يرى غير الشرعية مقياساً للتعبير عن رأيه حيال إدارة الشأن العام. صحيح أنه يعيش معظم حياته في عالمه الخاص، إلا أنه لا يستطيع أبداً أن يستغني عن المجال العام. والمجال العام كله كما سبقت الإشارة سياسة في سياسة. ففي المجال العام تتحرك أوتوبيسات وسيارات. وأمر النقل وأسعاره تهمه وتشغله. وطالما أنه يهمه فهو أمر سياسي يحق له أن يتكلم عنه وفيه. وفي المجال العام أيضاً مدارس وجامعات يدرس فيها أولاده وأحفاده. وهذا شأن مقلق له للغاية. وطالما أن ذلك يقلقه فهو أمر سياسي يحق له أن يتكلم عنه وفيه. والمجال العام فيه أيضاً مشاف وصيدليات يبحث فيها عن علاج لنفسه ولمن يعول. وأمر الصحة ليس بالهين أبدًا عند الإنسان. وطالما أنه كذلك فهو شأن سياسي من حقه أن يتكلم عنه وفيه. والقياس نفسه ينطبق على أمر الشقق والعمارات والمحال والوظائف وجمع القمامة والمرور والطعام والكساء والعملة والتراخيص والضرائب والرسوم والبيع والشراء والسينما والمسرح وملاعب الكرة، وغيرها من أمثلة لشئون وأحوال عامة، يتحدث الناس عنها وفيها لتستدرجهم، سواء علموا أو لم يعلموا شاءوا أم أبوا، إلى السياسة. فهي الآلة التي تدير لهم كل هذه الأمور وتقضي لهم كل تلك الحاجات. السياسة ليست إلا طريقة اخترعها الناس لإدارة المجال العام بالشكل الذي يضمن لكل فرد الحصول على حقه الخاص منه. وبالتالي فهي حق للجميع وملك للجميع لا يصح إبعاد أحدٍ عنه أو حرمانه من الحديث فيه، بل إن حديثهم فيها وعنها شرعي وشرعي جدا.
لكن هذا، وكما سبق القول، كلام الكتب الحكيمة يطبق فقط في المجتمعات القويمة التي تحترم أصول العلم وما انتهى إليه من قوانين. أما في المناطق العقيمة التي تحاول باستمرار إعادة اختراع العجلة وتخالف على الدوام الثابت بالعلم وتناقض بلا مواربة المستقر بالبديهة فأمرها مختلف. إذ تعمل بلا خجل ضد منطق العلم وعلى عكس ما يجري في العالم. تتخصص بلا كلل أو ملل عبر تاريخها المعقد الطويل في إعادة تعريف معنى السياسة والشرعية والكلام معاً. فهي لا تعتبر السياسة من حقوق الناس ولا مكوناً في الأصل من مكونات المجال العام. السياسة عندها جناية والخوض فيها قولاً أو فعلاً جريمة. الشرعية بالنسبة لها ليست رضاء الناس أبداً عن الحاكم. فهذا لا يهم. فالناس فيها مجرد أنفار. الأكثر أهمية عندها هو أن يرضى الحاكم عن المحكوم. وهذا هو الجديد والطريف في تعريف الشرعية. أن يضحي المجموع من أجل فرد. أن يُعطى الحاكم حقاً مطلقاً ويعطى المحكوم عدماً مطلقاً. فللحاكم الحق في معرفة أصل وفصل كل محكوم. له كل ما يشاء. بإمكانه أن يقبل أو يرفض تصرفات الناس كما يحلو له. هو من يقرر إن كانت تجمعاتهم وصيحاتهم ونداءاتهم مقبولة أو معيبة. هو من يمنح الشرعية للمجتمع برضاه عن الناس أو يخلعها عنه بغضبه عليهم. وتلك هي الشرعية المعكوسة. الشرعية التي لم يسجل لها تعريفٌ كهذا أبداً في الكتب ولا في المجتمعات القويمة التي تحتكم إلى الكتب وما فيها من حكمة. هي شرعية لا تستمد من “الناس اللي تحت” وإنما من “الشخص اللي فوق.” رضاء الناس فيها لا قيمة له. الأهم رضاء الفرد. وهذا هو الجديد والغريب والعجيب في تعريف الشرعية، الذي تقدمه جيوش من المتملقين والمنافقين والمروجين لتعريف فوقي لها لا يخجل من حرمان الناس من حق الكلام في السياسة أو عنها. إنه تعريف سلطوي وعلوي وفردي للشرعية يختلف تماماً عن التعريف الشعبي والتحتي والجماعي لها. تعريف لا يتيح أو يبيح الكلام عن السياسة أو فيها.
والتعريفان، البديهي والمضاد للبديهة، أو التحتي والفوقي لا يتعايشان في المجتمعات العقيمة التي تحاول إعادة اختراع العجلة إلا تعايش المضطر. فالحاكم لا يثق في الناس إلا على الورق. يحمي نفسه منهم بجدران من المؤسسات الأمنية. بل ويبحث كثيراً في كلماته وإيماءاته عن شعب ليّن ينتظره على مقاس أحلامه وأمانيه. والمحكوم من جانبه مخنوق ومتأفف. لا يطيق ما يسمعه أو يراه. لكنه مضطر إلى النفاق ليقول في السر ما لا يستطيع أن يقوله في العلن.
ولأنه تعايش المضطر، تنفجر بين الحين والآخر مواجهات عنيفة ودامية بين الشرعيتين. تلك التي تعبر عن رأي “الناس اللي تحت”، والأخرى المعكوسة التي تمجد حق “الفرد اللي فوق” من تحت تهب ثورات وانتفاضات تتمنى أن تسترد للشرعية الشعبية مكانتها وكرامتها وأن تستعيد للناس حقهم في الكلام عن السياسة وفي السياسة. في المقابل تنطلق من فوق حملات للتنكيل والاعتقال والقمع بهدف تصدير الإحباط إلى الناس ومنعهم من الكلام في السياسة وعن السياسة.
يا لها من غرابة حقاً مع تلك الكلمات الخمس. تظنها بالبديهة واضحة ثم تفاجئ في الحياة بشدة غموضها.