الحديث عن ما يسميه البعض “الناسخ والمنسوخ” في القرآن الكريم؛ يُمثل إشكالية كبرى، تأتي ضمن إشكاليات التعامل مع آيات الكتاب، عبر عدد من المفاهيم الخاطئة، في المعنى وفي الدلالة.. وهي الإشكالية التي تعود إلى أسلوب الاجتزاء المُتبع من جانب الكثيرين، ممن حاولوا التعامل مع آيات الله البينات. وبالتالي، فإن تصحيح الخطأ يمكن أن يساهم في إعادة رسم ملامح مفهوم “النسخ”، وتبيان دلالة المصطلح، كما تشير إليها مواقع ورود اللفظ في التنزيل الحكيم.
وهنا، لنا أن نؤكد ـ من جديد ـ على أن أسلوبنا يعتمد على “التحليل الدلالي” عوضًا عن التفسير، وعلى “التبيين المنهجي” في إطار الوحدة القرآنية، بطرح الجزء في إطار الكل، عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.
في هذا الإطار، لنا أن نؤكد أيضا على القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم النسخ، في التنزيل الحكيم، كما وصلنا إليها من خلال آيتي الجاثية والأعراف، إضافة إلى آية سورة الحج، في مقالين سابقين (على موقع أصوات أونلاين: 10، 16 أكتوبر الجاري) هذه القاعدة التي تؤكد أن “النسخ” مفهوم يؤشر إلى “تدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل من أصل الشيء”.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي” وهو ما يعني أن مصطلح “النسخ” في التنزيل الحكيم، تعني المماثلة أو المطابقة، كما نستعملها في وقتنا المعاصر.
في هذا الإطار، تأتي آية النسخ في سورة البقرة.. التي يستشهد بها الكثيرون في تناولهم لمفهوم “النسخ”.
الخطاب الإلهي
في سورة البقرة، وهي الموضع الرابع الذي ورد فيه مصطلح “النسخ” ضمن مواضع أربعة، وردت في التنزيل الحكيم.. يقول سبحانه وتعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [البقرة: 106].
وهنا لنا أن نلاحظ مسألة أساسية.. لها علاقة بالسياق العام للآية:
إذ تأتي آية النسخ هنا، بعد خطابين إلهيين.. الأول، الخطاب الذي يخص آدم عليه السلام وبنيه، بدءًا من جعل آدم “خليفة في الأرض”، في قوله سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 30].. ووصولا إلى تحديد فارق الحساب بين “من يتبع الهدى الإلهي”، وبين “من يُكَذِّب بآيات الله”، في قوله تعالى: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ٭ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” [البقرة: 38-39].
ولنا أن نلاحظ، التأكيد الإلهي على “الهدى” الذي سوف يؤتيه الله سبحانه وتعالى لآدم وبنيه، بقوله: “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى”، بعد “الهبوط”، بقوله: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا”؛ حيث إن الهبوط هنا، هبوط “مكانة” وليس هبوط “مكان”.. كما سيأتي تناوله في حديث آخر.
ثم، يأتي الخطاب الثاني، ليختص ببني إسرائيل، بدءًا من التذكير الإلهي لهم بـ”نعمته عليهم”، في قوله سبحانه: “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ” [البقرة: 40].. ووصولًا إلى تحديد أن “المثوبة” من عند الله، تتوقف على الإيمان والتقوى، في قوله تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” [البقرة: 103].
ولنا أن نلاحظ التأكيد الإلهي مرتين، على إتيان موسى عليه السلام “الكتاب” كما في قوله سبحانه: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [البقرة: 53] وفي قوله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ…” [البقرة: 87].
ومن بعد ذلك، يبتدئ الخطاب الثالث الذي يتعلق بالمسلمين “الَّذِينَ آمَنُوا”؛ مُحذرًا في مطلعه من استخدام التعبير اليهودي “رَاعِنَا”، في قوله سبحانه وتعالى: “يَاَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” [البقرة: 104].. ثم، محذرًا من كيد “الَّذِينَ كَفَرُوا” من أهل الكتاب والمشركين، في قوله سبحانه: “مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” [البقرة: 105].
آية النسخ
في هذا السياق، من الخطابات الإلهية، المتتالية، تأتي آية “النسخ” في قوله تعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [البقرة: 106].. التي تؤكد على أن النسخ الإلهي لأي آية، إنما هو “إثبات” و”تدوين” لها في التنزيل الحكيم؛ وليس محو أو إلغاء، سواء بين آيات التنزيل الحكيم كما قال بعض ممن أُطلق عليهم “الفقهاء”، أو بين الشرائع السماوية كما قال بعض ممن تناول آيات التنزيل الحكيم من المُعاصرين، مثل حاج حمد ومحمد شحرور.
وهنا، يمكن أن نسوق أكثر من دليل على صحة ما ذهبنا إليه.. منها: التحذير الإلهي من استخدام التعبير اليهودي “رَاعِنَا”؛ ومنها: التحذير الإلهي من كيد “الَّذِينَ كَفَرُوا” من أهل الكتاب و/أو المشركين؛ ومنها: التحذير الإلهي من تكرار تجربة بني إسرائيل بسؤال الرسول الكريم، مثلما “سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ”، وذلك في قوله سبحانه: “أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ” [البقرة: 108].. ومن قبل هذا التحذير الإلهي، الأخير، التأكيد الإلهي على أن الله سبحانه وتعالى “لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”، وذلك في قوله: “أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ” [البقرة: 107].
فهل يكفي هذا للتدليل على خطأ من حاولوا ترسيخ مفهوم للنسخ، بمعنى المحو والإلغاء، لأجل أن يتم تفسير التنزيل الحكيم على أساس من “المصلحة”، سواء كانت شخصية أم مصلحة حكام(؟).
لا نعتقد.. ولذلك لابد لنا من العودة إلى قواعد “اللسان العربي المبين”، الذي نزل به القرآن الكريم.. كيف(؟).
قواعد اللسان
يقول سبحانه وتعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [البقرة: 106].
هنا، يبدو الخطأ الفادح في تفسير النسخ على أنه المحو والإلغاء، بسبب المقابلة الخاطئة بين “نَنسَخْ” وبين “نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا”؛ وهي المقابلة التي أقل ما يُقال في شأنها أنها “جهل” بأبسط قواعد “اللسان العربي المبين”، لسان القرآن الكريم.. فالمقابلة الصحيحة، تكون كالتالي: “نَنسَخْ” تُقابلها “مِثْلِهَا”.. أما “نُنسِهَا” فهي التي يُقابها “نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا”؛ وذلك حسب قاعدة “الترتيب العكسي” في جملتين متتاليتين.
وهنا، يستقيم المعنى بالنسبة لمصطلح النسخ في التنزيل الحكيم؛ ويبدو ذلك بوضوح عبر إعادة قراءة الآية، من خلال المقابلة الصحيحة.. فـ”مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ… نَأْتِ بِـ… مِثْلِهَا”، أو”نُنسِهَا… نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا”.. أي: إن الله سبحانه وتعالى يُعيد “تثبيت” آيات مثل التي وردت في التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو…، والدليل قوله سبحانه: “أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”.
ولنا في آيات التنزيل الحكيم، أكثر من دليل يؤكد ما ذهبنا إليه.. يقول تعالى: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ٭ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ٭ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ٭ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى” [الأعلى: 16-19].. وواضح من سياق الآية، أن قوله سبحانه في آيات سورة الأعلى، وخصوصًا قوله: “وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى”، كان قد ورد من قبل في “صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى”، من حيث “إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى”. أما لمن يتساءل حول، أو يحتج بـ”نُنسِهَا”، فيكفيه أن يُراجع قوله تعالى: “سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ٭ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى” [الأعلى: 6-7].
النسخ إذن لا يعني، ولا يمكن أن يعني، أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا” [الإسراء: 43]، قد “غيّر رأيه” فألغى آيات أو أحكام، ليستبدل بها غيرها.
“مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ • مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ • أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ • أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ” [البقرة: 105-108].