مختارات

مذكرات بديع خيري (نادرة الوجود) بين يديّ.. بديع يتذكر(1)

بقلم: طارق يوسف، نقلا عن صفحته على على فيس بوك

في شبابي المبكر كنت عضوًا في جمعية سرية مهمتها طبع المنشورات الثورية وتوزيعها.. وقد ألف هذه الجمعية شاب اسمه “سعيد العناني”.. وكنا نطبع المنشورات في مكان لا يخطر للبوليس ولا يجرؤ على تفتيشه، في عزبة الأمير إسماعيل داود بمحلة روح قرب المحلة الكبرى، ثم نوزعها سرًا في القاهرة. وكنا مسلحين، ومركز توزيع الأسلحة الخاص بنا عربة كُفْتَجي سرّيح اسمه “عفيفي”، يقف في ميدان باب الحديد، وكان يدس لنا المسدس في سندوتش كفتة، ولم نكن نخشى الأحكام العرفية المطبقة وقتئذ، والتي كانت تعاقب على حيازة السلاح بدون رخصة بالإعدام، لدرجة أنني كنت أتمرن على إطلاق النار علانية فوق سطح البيت الذي أسكنه في شارع جامع خورشيد لصق الجامع.. حتى جاء يوم اقترب فيه رأسي من حبل المشنقة، إذ كان يسكن في نفس الشارع إنجليزي اسمه “مستر هاتون”، موظف كبير في ورش عنابر السكة الحديد، وكان يسكن في بنسيون صاحبته إيطالية كنا نعرفها باسم “أم بول”.. وحدث يوما أن كان يسير في الشارع، وأمام باب بيتي بالضبط.. أصيب بطلق ناري ووقع على حائط البيت.. ساعتها توقعت بالطبع الاعتقال والتفتيش، فأخذت المسدس وصعدت إلى السطح، وربطت المسدس بسلك طويل وأسقطه في ماسورة المجاري. وحدث ما توقعت وتم التفتيش، ولم يعثر البوليس على شيء، وصعدت إلى السطح بعد أن انصرفوا لأسترد المسدس فلم أجده.. كان قد انزلق وضاع في المجاري، فانطلقت إلي “عم عفيفي” الكفتجي وأخذت منه سندوتش بروننج جديد”.

كان هذا جزء من مذكرات بديع خيري، ابن شارع المغربلين، الذي ولد بحي الدرب الأحمر في 7 أغسطس عام 1893، زامل وعايش وشارك كبار الفنانين، الذين يطلق عليهم في مذكراته: “فرسان هذا الزمان وفارساته.. سيد درويش الصريح، وداود حسني الكتوم، ونجيب الريحاني الفنان الهاوي، والإخوة عكاشة المتضاربين، وعزيز عيد مدمن الفن، وعلي الكسّار الساذج الذكي، ومنيرة المهدية الكريمة الطيبة القلب، وزكريا أحمد صاحب الإخاء الصادق والقلب المفتوح، وبديعة مصابني العنيدة، وكمال سليم المعتز بفنه بكبرياء، وغيرهم من الفنانين الذين ماتوا، والذين ما زالوا أحياء وفي مشعل فنهم ومضات نور، أو انطفأ نورهم”.

بهذه الكلمات يقدم بديع خيري لمذكراته التي تأخذنا عبر نصف قرن من حياة مصر بأوجهها المختلفة، فأي متابع لأزجاله أو مسرحياته، يستطيع أن يتعرف على شكل الحياة في مصر مع بداية القرن العشرين، فهو لم يترك حدثًا قوميًا أو قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، إلا وأدلى بدلوه في أيٍ مما يحدث، بأسلوب بسيط يفهمه ابن البلد والأفندي على حد سواء…

فقد كانت قضايا الاستقلال والفَرْنَجة، والوحدة الوطنية بين عنصري الأمة، وقضايا التعليم والتحديث والتقدم بوجه عام، هي الشغل الشاغل لبديع خيري ولم يخل زجل من أزجاله ــ على كثرتها ــ من إحدى هذه القضايا. لقد شغلت قضايا الوطن بديع خيري منذ نعومة أظفاره..

كما أنه تعامل فنيًا وإنسانيًا مع عدد لا حصر له من الفنانين والأدباء والكتاب، وتضمنت مذكراته الكثير من الذكريات حول أحداثٍ مع العديد منهم، كان هو أحد أطرافها…

وكتاب مذكرات بديع خيري، نادر الوجود.. وقد حصلت على النسخة التي بين يديّ من أرملة الفنان الراحل “عادل خيري”، عندما كنت أحضّر لتأليف سهرة إذاعية عن بديع، زرتها فمنحتني ــ مشكورة ــ النسخة الوحيدة من الكتاب الموجودة لديها، لنسخ صورة ضوئية منه وإعادته إليها مرة أخري، وقد وفيت بوعدي، فبعد أن حصلت على نسخة ضوئية، أعدت النسخة الوحيدة والنادرة إلى صاحبتها (أرملة الراحل عادل خيري)..

بديع خيري

وتقع مذكرات بديع في 190 صفحة من القطع المتوسط، مقسمة إلى 17 فصلا، ونشرت على حلقات بمجلة الكواكب على مدى ستة عشر عددا، بدأت في 2 يوليو 1963، أي بعد وفاة ابنه عادل خيري بوقت قصير (بعد أقل من أربعة أشهر فقط).

لذا فبديع خيري ينهي المذكرات بهذا العنوان: “توقيع بالدموع”.. حيث يقول: “واليوم وقد انتهينا أنا والصديق الحبيب “محمد رفعت” (الذي أملى عليه بديع المذكرات) من كتابة هذه المذكرات، لم نَكُ ننتظر أن نوقعها بدموعنا.. دموعنا على عادل خيري.. عادل ولدي الذي كنت أدخره ليتسلم من بعدي مسرح الريحاني، ويرعى أبناء مدرسة الريحاني.. وليواصل السير بالقافلة ومن بعده ولده، حتى لا تنطفئ أبدا أضواء مسرح الريحاني. ولم يَكُ خير ما سأورث عادل المسرح أو المال، بل الحكمة التي حرصت عليها طول حياتي: (كلما اشتد الظلام، كلما اقترب بزوغ الفجر)… ولكن أي فجر أرجوه الآن وقد ذهب عادل”.

بهذه الكلمات الحزينة يختتم بديع خيري مذكراته..

ومن جانبنا سنستمر في سرد ما جاء بهذه المذكرات، لكننا سنركز في هذه السلسلة: “بديع يتذكر” على علاقته بنجيب الريحاني، وسيد درويش فقط، وسنذكر في لمحات سريعة ما يشير إلى مدى ارتباطه بقضايا الوطن المختلفة.

فإلى اللقاء في المقال المقبل: بديع يتذكر.. (2)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock