عادت التظاهرات المناهضة للنظام السوري إلى محافظة السويداء، في الأسبوع الأول من ديسمبر، مع تبني المتظاهرين لسقف مطالب سياسية مرتفع، تمثل بالمطالبة برحيل النظام وإسقاط بشار الأسد.
وتعتبر مظاهرات السويداء مُربكة للنظام السوري، لجهة تأثيرها على سرديته التي يتبناها حول حمايته للأقليات إذ، من المعروف أن محافظة السويداء، التي تقع في جنوب غرب سوريا، تُعرف بمنطقة “جبل العرب”، وينتمي معظم سكانها البالغ عددهم سبعمئة وسبعين ألف نسمة، لطائفة الدروز، إضافة إلى أقلية مسيحية كبيرة.
ولم تكن تظاهرات السويداء هذه، هي المرة الأولى التي يخرج فيها أبناء المحافظة، لمطالبة الحكومة بتحمل مسئولياتها؛ ففي عام 2019، خرجت تظاهرات تطالب بتحسين الواقع المعيشي؛ وفي عام 2020، بدأ حراك “بدنا نعيش” بالتظاهر والمطالبة بالحد الأدنى من مقومات العيش الكريم. وكذلك في ديسمبر من العام 2021، خرجت تظاهرات مماثلة؛ وأيضا، في فبراير 2022، خرج المتظاهرون يطالبون بالحد الأدنى في كل شيء.
حراك السويداء
رغم أن الاحتجاجات الشعبية في السويداء أصبحت مسارًا، بات يسلكه البعض من أبنائها بين الفترة والأخرى، إلا أنها تطورت في آخر حلقاتها لتفرض مشهدًا غير مسبوق؛ خاصة أنه تمثّل بحرق مبنى المحافظة، وتمزيق صور رأس النظام السوري بشار الأسد.
ولم تسفر التظاهرات عن حرق المبنى وصور الأسد فحسب، بل راح في إثرها قتيلين، أحدهما مدني والآخر من عناصر الشرطة، بينما أُصيب أكثر من ثمانية عشر شخصًا، تراوحت إصاباتهم بين طلقات نارية وشظايا.
ولم تكن تظاهرات السويداء، هذه المرة، وليدة الصدفة أو حدثًا عابرًا، وإنما جاءت نتيجة تراكمات متتالية، تقاطعت جميعًا في عدد من الأسباب.. لعل أهمها تردي الأوضاع المعيشية فيها؛ فمنذ أكثر من تسع سنوات، ترزح محافظة السويداء تحت أوضاع معيشية واقتصادية صعبة، بسبب جرعة التضييق المتزايدة عليها.
وتتمثل خصوصية السويداء في أنها تضم النسبة الأكبر من الأقلية الدرزية، تلك التي أجبرت النظام على اتباع أسلوب مغاير، لذلك الذي سلكته أجهزة الأمن في التصدي للتظاهرات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، منذ مارس عام 2011.
وبدا واضحًا، منذ تفجر الاحتجاجات الأخيرة، أن منظمي الحراك تساندهم قاعدة شعبية كبيرة من أهالي المحافظة. بل، واستطاع هذا الحراك أن يبعث برسالة قوية، إلى الخارج قبل الداخل السوري، تمثلت بانخراط الجماعات الأهلية المسلحة – دون سلاح- في الحراك والتظاهرات المعبرة عنه. لكن اللافت هذه المرة، أن حراك السويداء أخذ منحى تصاعديًا، ولم يقف المتظاهرون عند حدود المطالبة بتحسين الواقع المعيشي، بل ارتفع سقف الشعارات الشعبية إلى المطالبة بدولة مدنية ديمقراطية، وتطبيق الحل السياسي في سوريا وفقًا للقرارات الدولية.
من جهة أخرى، فجّر قرار الحكومة السورية، باستبعاد فئاتٍ عدتها ضمن الفئات “الأكثر ثراء”، من الدعم الحكومي للمواد الأساسية، كالخبز والغاز والمازوت، والمواد التموينية – غضبًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، ودعوات إلى التظاهر، وهو ما تحقق في فبراير الماضي، لتعود التظاهرات مرة أخرى إلى السويداء؛ خاصة أن الفئات “الأكثر ثراء”، بحسب تعبير الحكومة السورية، لا تتجاوز دخولهم الثلاثين دولارًا أمريكيًا شهريًا.
والملاحظ، أن عموم المناطق في سوريا، تشهد واقعًا معيشيًا هو الأسوأ منذ اندلاع الصراع في سوريا قبل أحد عشر عامًا؛ حيث ارتفعت نسبة التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، ووصل سعر صرف الدولار الأمريكي إلى خمسة آلاف وسبعمئة ليرة سورية خلال شهر ديسمبر.
وبات السوريون يعانون انخفاضًا حادًا في القوة الشرائية بسبب رواتبهم، التي لا يتجاوز متوسطها مئة وخمسين ألف ليرة، أي حوالي خمسة وعشرين دولارًا تقريبًا؛ وذلك في مقابل الارتفاع المستمر في أسعار المواد الغذائية الأساسية. هذا، فضلًا عن المعاناة من شُح المحروقات، وعدم توافرها ـ حتى في السوق الموازية ـ إلا في ما ندر وبأسعار فلكية؛ إلى جانب انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، تصل في بعض المناطق إلى حوالي عشرين ساعة يوميًا.
من جهة أخيرة، هناك ملف الممتنعين عن الالتحاق بالمؤسسة العسكرية؛ حيث يأتي هذا الملف ضمن الأسباب التي دفعت النظام السوري، إلى التضييق الأمني على محافظة السويداء. هذا، بالإضافة إلى الغضب الناجم عن استمرار المحاولات في تجنيد بعض شباب المحافظة، عن طريق الأحزاب الموالية للنظام أو الزعامات الدينية؛ وكان آخر هذه المحاولات، قيام حزب “الشباب الوطني السوري” بتجنيد بعض الشباب من المحافظة، للقتال في ليبيا تحت قيادة “فاغنر” الروسية.
ويأتي الامتناع عن التجنيد، بناءً على تأكد أهالي السويداء، من أن مواجهة التظاهرات، خلال الأعوام الأخيرة، قد وُجِهَ بشكل أمني وعسكري من قبل النظام؛ وبالتالي، كان القرار المبكر الذي اتخذه “شيوخ عقل” الطائفة الدرزية في السويداء، بمنع شباب المحافظة من الالتحاق بالخدمة الإلزامية، في صفوف المؤسسة العسكرية السورية، خوفا من تورطهم في “القتال ضد السوريين”، ما شكل ردة فعل كبيرة لدى النظام السوري.
مستقبل الحراك
في هذا السياق، يمكن القول بأن تظاهرات السويداء، الأخيرة، لم تكن وليدة الصدفة أو حدثًا عابرًا، إنما جاءت نتيجة تراكمات في اتجاهين رئيسيين:
الأول، الأزمة السياسية التي يمر بها النظام السوري، منذ انطلاق الانتفاضة السورية، في عام 2011، و التي لا تزال مستمرة حتى الآن، نتيجة التدخلات الدولية المتعددة.
أما الآخر، فهو الاقتصادي والمعيشي، الذي بدأ بالبروز بعد قرار إلغاء الدعم عن شريحة كبيرة من السوريين. وبالتالي، فإن ما جرى في السويداء كان مميزًا، فقد حمل الطابعين معًا في الوقت نفسه، طابع معيشي متعلق بالاحتياجات الأساسية كالوقود والمواد الأغذلئية، وطابع آخر سياسي مهم، عبر عنه تمزيق صور الرئيس السوري بشار الأسد، واقتحام مبنى المحافظة.
وعلى الأرجح، فإن مستقبل الحراك، والتظاهرات المصاحبة له، سيكون مرتبطا بعدة عوامل أهمها: موقف “مشايخ عقل” الدروز، الذين يمثلون مرجعية لشريحة واسعة من أبناء المحافظة؛ فضلا عن موقف الفصائل المحلية، وخاصة فصائل “رجال الكرامة” التي تعتبر الأكثر شعبية في السويداء. وأخيرا، الاستراتيجية التي سوف يتبعها النظام لمواجهة الاحتجاجات والتظاهرات، وكيفية التعامل معها.
وأيا يكن الأمر، فإن الملاحظة التي نود تثبيتها في إطار ما يحدث، أن الذي يجري في السويداء هو من منتجات الترتيب المستقبلي للجنوب السوري، في اتجاه أن يكون حديقة خلفية لإسرائيل؛ فهو يختلف عن ترتيبات باقي المحافظات السورية الأخرى، بأن يتحول الجنوب لإقليم تحت الوصاية الدولية بإشراف روسي.
ولعل من بين مؤشرات ذلك، أنه منذ عام 2016، جرى الترتيب أن يكون للقوات الروسية، التي قامت ببناء قاعدة عسكرية في منطقة “جباب” بريف درعا، وجود إلى جانب عناصر “اليونيفيل”. ومن بين المؤشرات أيضا، التدخل الروسي في ما يجري في السويداء، عبر المشاورات مع الزعامات الدرزية الموجودة في المحافظة.