بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عُمان
يساورني شك عميق؛ بأن جزءا من السردية المهيمنة على الفضاء العام العربي، وكأنها حقيقة مطلقة وليست نسبية.. والتي تقول إن النظام الرسمي العربي شبع موتا وصار جثة هامدة، إنما هي سردية لا تساهم في انتشارها النخب العربية المهمومة بما آلت إليه أوضاع أمتها، وإنما ينشرها أيضا النظام الرسمي بنفسه وعن نفسه؛ كي ينفض يده من أي مسئولية قومية، ويترك الحبل على الغارب للمتربصين بثروات المنطقة، والساعين لهدم دولتها الوطنية، وإغراقها في صراعات الطوائف والمذاهب وإرهاب المنظمات التي تتخفى وراء الدين.
تقود هذه السردية، الجمهور العربي إلي فقدان الأمل واليأس والتسليم؛ بأن الدول والحكومات العربية عاجزة كليا عن اتخاذ موقف مشترك واحد، مهما بلغت واقعيته ومحدوديته وصغر وزنه لوقف الانهيار المخيف الحاصل في المكانة الدولية للعالم العربي، وطمع القوى الإقليمية – وليس فقط القوى الغربية الكبرى- في حدوده وممارسة هيمنة على شئون دوله الداخلية، وخلق مناطق نفوذ وتجنيد قوى محلية مرتبطة بالخارج.
ما يجادل فيه هذا المقال، ليس في حقيقة تفكك وتداعي قوائم النظام الرسمي العربي، تحت وطأة منعطفات كبرى؛ مزقته إربًا مثل التسوية المنفردة مع إسرائيل في سبعينيات القرن العشرين، وغزو العراق للكويت في تسعينياته، الحروب العربية – العربية، المقرون بحروب داخلية وأهلية في ليبيا واليمن وسوريا بعد ٢٠١١، وإنما يجادل في أن هذا التداعي التراكمي رغم ما خلفه من تقوض الإرادة السياسية العربية – لا يمنع حتى الآن من وجود هامش لموقف “حد أدنى” يمكن أن يتفق فيه عدد معقول وربما حتى أغلبية من وحدات النظام الرسمي العربي رغم تنافر وتناقض كثير من سياساتها القُطرية.
وجود هذا الهامش لتنسيق تقوم به مجموعة غير قليلة من الحكومات العربية ليس مبنيا على فرضية وحدوية مثالية بل على فرضية واقعية شديدة البراجماتية قائمة على مصالح الدولة العربية القطرية نفسها في المرحلة السياسية الراهنة.
هذا الفرضية هي ما يشي به الاتجاه العام، الذي يمكن بسهولة ملاحظته، من إعادة وحدات النظام الرسمي العربي – كل على حدة- أولوياتها في الأعوام الثلاث الأخيرة؛ خاصة في العام الماضي في اتجاه رئيس؛ ألا وهو التركيز على الاقتصاد والتنمية الاقتصادية أولا وأخيرا.
هذا الاتجاه الذي يمكن قراءته في توجه عام في كثير من دول الخليج ومصر ودول المشرق العربي، وأجزاء مهمة في منطقة المغرب العربي؛ إنما يعود إلي عاملين: الأول هو التحديات الخطيرة التي خلقتها جائحة كورونا واندلاع الحرب الأوكرانية الحالية. فقد جعلت الأزمتان من الأمن الغذائي العربي، واجب الوقت أمام الحكومات العربية؛ خاصة بعد اضطراب سلاسل الإمداد الذي فضح ضعف الاكتفاء الذاتي العربي واعتماد حكوماته على تدبير معظم حاجات شعوبه الغذائية بالعملة الصعبة من الخارج.
وكشفت الأزمتان كذلك عن الخلل الهيكلي، في العديد من الدول العربية غير النفطية؛ إذ اتسعت فجوتها الدولارية، وتراجعت قيمة عملتها المحلية بمعدلات غير مسبوقة في المئة عام الأخيرة، وبالتالي إلى حاجة هذه الدول إلى مراجعة شاملة؛ تركز على الاقتصاد عامة وعلى الاقتصاد الإنتاجي وليس الريعي، وتعود إلى سياسة الإنتاج السلعي لإحلال الواردات، بما يقلل النزيف الدولاري والإنتاج السلعي بهدف التصدير لزيادة العوائد الدولارية.
من ناحية أخري.. خلقت الحرب الأوكرانية فرصة تاريخية جديدة ونادرة؛ لدول النفط والغاز العربية {العراق وليبيا والجزائر وموريتانيا القادمة من بعيد باحتياطات غاز ضخمة + دول الخليج العربية} إلي عمل انطلاقة ووثبة تنموية كبرى مع الارتفاع في أسعار النفط، بعد القيود التي فُرضت على النفط الروسي، والتحسن النسبي في الطلب العالمي، مع بدء تعافٍ نسبي في الاقتصاد العالمي، وزيادة الطلب على النفط.
ومن ثم فهذه الدول مطالبة بالتركيز على الاقتصاد للاستفادة القصوى من هذه الفوائض المالية المتوقع أن تستمر – ما لم تحدث مفاجآت كبرى – حتي العام ٢٠٢٦.
إذن المحصلة العليا لدول النظام العربي – كلٌ على حدة- هي في التفرغ للتنمية الاقتصادية، بما يعنيه ذلك من توجهٍ ملموس لديها للخروج من صراعات كانت متورطة فيها، أو إعطاء إشارة واضحة لدول ومصادر صراع وتهديد محتملة إقليمية؛ بأنها تسعى إلى كبحها وتفادي أي مواجهات أو حلول عسكرية لهذه التوترات، وتفضل عليها حلولا سلمية أو علي الأقل تفضل سياسة التهدئة والحيلولة دون انفجار حروب وتوترات جديدة في منطقة لديها أصلا فائض من الحروب واللاجئين والكوارث الإنسانية كما في اليمن وسوريا.
إذن يُعدّ منع انفجارات جديدة في المنطقة – تلوح في الأفق الآن- هو مصلحة ذاتية عليا لمعظم الدول العربية؛ ولكن تحقيق هذه المصلحة تعجز عنه كل دولة من هذه الدول على حدة، وذلك لسبب واضح هو تداخل مصادر الصراع بين أكثر من طرف عربي، وإقليمي غير عربي، ودولي غربي، أو دولي منافس للغرب مثل الصين وروسيا.
بعبارة أخرى تتوافر لوحدات النظام الرسمي العربي مصلحة مشتركة وواقعية ولأسباب قُطرية أنانية – إذا صح التعبير- للعمل على منع إعاقتها عن التنمية الاقتصادية في صراعات تستهلك مواردها من جديد، وتضيع عليها فرصة تاريخية قد لا تتكرر مرة أخري للانتقال إلى نادي الأربعين أو الخمسين دولة الأولى اقتصاديا في العالم.
تستطيع الدول العربية على ما بينها من شقاق أن تتفق – براجماتيا- على مواجهة هذه التحديات التي تلوح في أفق المنطقة:
أولا: وقف التطبيع مع إسرائيل، للحيلولة دون انفجار الوضع في فلسطين المحتلة بكل دلالاته القومية والدينية وارتباط وجدان الشعوب العربية المذهل بالقضية الفلسطينية:
يشير الاقتحام الوحشي للاحتلال الاسرائيلي، قبل أيام.. وما خلّفه من شهداء ومصابين فلسطينيين، وعملية الرد الفدائي الفلسطيني في القدس – إلى احتمالات مرتفعة لحدوث انفجار إقليمي هائل؛ تقود إليه هذه الحكومية اليمنية الأكثر تطرفا وجنونا عنصريا ودينيا في تاريخ دولة الاحتلال، بحيث يصبح متطرفون سابقون قادوا الحكومة مثل بيجين وشارون بمثابة أطفال في روضة.
وما لم يُكبح جماح هذه الحكومة؛ فإن اندلاع مواجهات عسكرية، بات شبه مُؤكدٍ في الضفة الغربية، وفلسطين الخط الأخضر وفي القدس؛ خاصة في باحات المسجد الأقصى الشريف.. وقد تمتد شرارتها إلى حرب وحشية إسرائيلية على قطاع غزة.
ليس بوسع العرب الآن – ببساطة- العمل – كالعادة- بقاعدة انتظار السيد الأمريكي المنحاز دائما لإسرائيل قاعدته الاستراتيجية في الشرق الأوسط. إنما عليهم إبلاغ رسالة واضحة وصريحة – خاصة قبل جولة وزير الخارجية بلينكن التي أظهرت استشعار واشنطن لخطر انفجار الشرق الأوسط، وهي -أي واشنطن- متورطة وغارقة حتى أذنيها في مواجهة روسيا عسكريا عبر أوكرانيا في حرب تدخل عامها الثاني.
هذه الرسالة هي، وقف كل صور التطبيع الحكومي العربي الذي اخترق جسد الأمة؛ خاصة في السنوات الأربع الأخيرة، إذن مصلحة الدول العربية حتى أكثرها ابتعادا عن مفهوم الأمن القومي العربي؛ أن تمنع أصدقاءها الجدد من تفجير المنطقة، وزيادة عدم الاستقرار فيها؛ فهذا إن حدث وهو متوقع جدا إذا استمر الثلاثي نتنياهو وسومتيرش وبن غفير في جنونهم القومي الديني.
وإلا لن تكون هناك فرصة للتنمية الاقتصادية؛ بل ولن يكون هناك استقرار داخلي في البلدان العربية، إذ سيدعو حجم الدماء الفلسطينية الذكية المتوقع أن تهرق من عمليات القتل والتوسع الاستيطاني الذي يخطط له الثلاثي المتطرف في تل ابيب – إلى إثارة غضب ما يزيد عن مليار ونصف مسلم؛ خاصة مع توالي عمليات تدنيس المسجد الأقصى – دنس بن غفير بمفرده باحات المسجد الأقصى ست مرات في أقل من عامين !!- مع اقتراب شهر رمضان المبارك.
إن الاستمرار في التطبيع مع إسرائيل لم يعد -على الأقل في هذه اللحظة- حماية للشعب الفلسطيني أو إبقاءً لفرص ما يعرف بحل الدولتين؛ وإنما هو مصلحة وطنية قُطْرِيّة صرفة للعض علي النواجذ بفرصة التركيز على التنمية الاقتصادية قبل فوات الأوان وتبدد الفوائض
ثانيا: إحباط المخطط الإسرائيلي لتفجير حرب مع إيران، أو جر دول الخليج إلى مواجهة مع جارتهم في الجغرافيا والتاريخ:
من أفضل التوجهات المتنامية -على الأقل علنا في الشهور الأخيرة ومن دول رئيسية في الإقليم- هو الإشارة الصريحة أنها لا تبحث عن حلول صدامية لمشكلاتها مع إيران. ومع التحذيرات الأخيرة من مسئولين سابقين، ولكن مطلعين مثل الشيخ حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر السابق، عن توجه جنوني آخر لحكومة التطرف اليمين الإسرائيلي، لتطوي وضعا قتاليا والحصول على أسلحة أكثر تقدما تمكنها من توجيه ضربة عسكرية لإيران، وإشعال حرب إقليمية متوقعة نتيجة أن إيران كدولة إقليمية كبيرة لن تسكت، وستستفيد من كل الأطراف الإقليمية المرتبطة بها في ردود فعل مؤلمة؛ قد تمتد من العراق ولبنان وسوريا، حتى الخليج والجزيرة العربية.
خطر مخيف ومجنون من هذا النوع تشعله حكومة اليمين الإسرائيلي، يجب أن تسعى الدول العربية بكل ما ترغب فيه من تنمية، أن تعلن وقوفها ضده لأنها وليست إسرائيل التي ستدفع ثمنه الباهظ.
إن ما صاب المنطقة العربية والخليجية من إعاقة خطيرة لعملية التنمية من حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران، يجب استدعاؤه إلى الذهن الآن بكل مرارته لتجنب الوقوع فيه مرة أخرى. وعلى كل الأطراف العربية التي جارت إسرائيل في السنوات الأخيرة في وهم أن الصراع في الإقليم هو صراع سني عربي- إسرائيلي ضد إيران، عليها أن تتوقف لحظة تراجع فيها نفسها؛ فالخطر لن يكون على إيران وهي دولة كبيرة لها عمق حضاري لا يمكن نكرانه يمكنها من الصمود في نهاية المطاف، ولكن سيكون للأسف على أولوية التنمية ورفاه الشعوب في المنطقة العربية عامة والخليجية خاصة.
أمام بعض الدول العربية فرصة للنجاة من اختلال اقتصاداتها المزمن وأمام بعضها الآخر فرصة لعمل وثبة كبرى تنقلها لنادي المتقدمين أو على أبواب عضويته إذا واصلت نهجها الحالي في اتجاه الاقتصاد أولا ولكنها تحتاج لتتضافر معا لمنع إغراق المنطقة بصراعات وتوترات جديدة مصدرها الرئيسي هو التطرف الإسرائيلي المحمي أمريكيا.