رؤى

مؤشرات ودوافع.. الاستثمار الدولي في شرق ليبيا

ثمة عدد من المؤشرات التي تبدّت بوضوحٍ مؤخرًا، للدلالة على مدى التنافس حول الاستثمار في شرق ليبيا، بين مجموعة من الشركات الدولية؛ من أهمها “ائتلاف” من مجموعة شركات عالمية، تقوده شركة السكك الحديدية الصينية، ويضم تحت مظلته عددا من الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، من بريطانيا وفرنسا وتركيا وغيرها؛ حيث تُعد هذه الشركات رائدة في مجال أنشطتها الدولية، مثل “الكاتيل” للاتصالات، و”سيمنس” المتعددة الاختصاصات.

وقد أعلن عن توقيع اتفاق بين هذا “الائتلاف” من الشركات العالمية، مع الحكومة التابعة للبرلمان في الشرق الليبي، بخصوص مشروع تنموي ضخم بمدينة بنغازي ومدن أخرى في المنطقة الشرقية والجنوبية. إلا أن مسألة شرق ليبيا، لا تتوقف عند حدود المؤشرات الدالة على تنافس الاستثمار الدولي؛ ولكن يطرح هذا الشرق عددًا من الدوافع الكاشفة، لأسباب ودلالات مثل هذا التنافس.

ضمن أهم المؤشرات الدالة على أهمية الشرق الليبي، بالنسبة إلى تسابق الشركات العالمية، والقوى الإقليمية، إليه.. يأتي المؤشران التاليان:

فمن جانب، هناك التنافس الإقليمي حول النفوذ في “الشرق” الليبي؛ وهو التنافس الذي يُعبر عن نفسه، بين عددٍ من القوى الإقليمية، حول تمدد نفوذها إلى منطقة الشرق؛ ولعل ضمن أكثر الأمثلة وضوحًا، هو التنافس المصري التركي في هذا الشأن.

بالنسبة إلى مصر، فقد أعلن عن إنشاء منطقة لوجستية جديدة على الحدود مع ليبيا؛ وقد كشف عن هذه المنطقة الرئيس السيسي، خلال لقاء مع شيوخ وأهالي مدينة مرسى مطروح، في أقصى غرب مصر، في 17 أغسطس الماضي. ويأتي إنشاء هذه المنطقة الجديدة على مساحة تصل إلى 300 فدان (أكثر من مليون متر مربع)، قُرب منفذ السلوم، وهو المنفذ الحدودي بين مصر وليبيا.

أما بالنسبة إلى تركيا، فقد أبدت استعدادها لبناء علاقات وثيقة مع السلطات في شرق ليبيا، حيث تُعد جهود تركيا الإغاثية في درنة مثالا على ذلك. وفضلا عن أن أنقرة تُدرك أن أي جهد للتعامل مع شرق ليبيا، يجب أن يأخذ في الاعتبار مصالح مصر المجاورة؛ إلا أنها تحاول، منذ فترة، التقارب مع شرق ليبيا، بعد أن كانت تتخذ منه موقفًا عدائيًا، تبدى بوضوح في صد هجوم الجيش الليبي، خلال معركة الكرامة، على طرابلس العاصمة الليبية.

من جانب آخر، تتبدى محاولات الدبيبة في مد نفوذه إلى “الشرق”؛ حيث يسعى رئيس حكومة “الوحدة الوطنية” في غرب ليبيا، إلى تمديد نفوذه إلى منطقة الشرق الليبي، على حساب حكومة “الاستقرار” هناك؛ ولعل المثال الواضح على ذلك، هو عقد الدبيبة اجتماعًا، في العاصمة طرابلس، في أول أغسطس الماضي، مع فرج أبو الخطابية، رئيس مجلس طبرق البلدي وأعضائه، لبحث سُبل رفع أداء الإدارة المحلية.

والملاحظ، رغم أن بلدية طبرق (أقصى شرق البلاد)، تقع ضمن نطاق النفوذ الإداري لكل من مجلس النواب (البرلمان الليبي)، وأيضا حكومة الاستقرار برئاسة أسامة حماد؛ إلا أن أيًا منهما لم يُعلق على الاجتماع؛ هذا إضافة إلى عدم تعليق الجيش الليبي على الاجتماع، رغم أن طبرق تقع ضمن نفوذه العسكري.

كما يبدو فإن عددًا من الدوافع، تُساهم في تنافس الاستثمار الدولي حول منطقة الشرق الليبي.. لعل أهمها هي التالية:

أولًا: أهمية موقع ليبيا الجيواستراتيجي؛ إذ يستند التنافس الاستثماري من الشركات العالمية، حول منطقة الشرق الليبي، عبر ما تتمتع به ليبيا عمومًا، وشرقها بوجه خاص، من موقع جيوسياسي، وجيواستراتيجي، مميز في إطار الساحل الشمالي لأفريقيا؛ وهو ما يجعل منها دولة متوسطية تربط القارة الأوروبية بأفريقيا، حيث تصل طول سواحلها على البحر المتوسط إلى حوالي 1900 كم، تلك التي تُقابل مساحة كبيرة من جنوب القارة الأوروبية، يجعلها ذات توجه استراتيجي قوي نحو الدولة الليبية.

هذا، فضلا عما تتمتع به ليبيا من تمركز جغرافي متميز على مستوى شمال أفريقيا، فهي تتوسط قوتين إقليميتين، مصر والجزائر؛ إضافة إلى إطلالتها على منطقة الساحل الأفريقي، بكافة ملامحه وتعقيداته، بالنسبة إلى تقاطعات الاستراتيجيات الدولية.

ثانيًا: تمتع الشرق الليبي بالأمن والاستقرار؛ حيث يتمتع شرق ليبيا، الذي يُسيطر عليه الجيش الليبي، منذ عام 2021 على الأقل، بأجواء أمنة ومستقرة، تجعل من نسبة الاطمئنان إلى إمكانية الاستثمار في مشاريع فيه، وفي إطاره، نسبة كبرى؛ وذلك على العكس من مناطق الغرب الليبي. ويعود عدم الاستقرار في مناطق الغرب إلى الميليشيات في المنطقة الغربية، وتحديدًا في طرابلس ومصراتة، والتي يصل عددها إلى 50 ميليشيا.

وهذا العدد من الميليشيات، كان قد ذكره تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر في العام قبل الماضي، في مارس 2021، والذي أكد على أن الميليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، ومن بعدها حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة.

ثالثًا: الموارد والهلال النفطي في شرق ليبيا؛ ففي الوقت الذي تتمتع فيه ليبيا، بقدر كبير من احتياطيات النفط والغاز، التي جعلت منها صاحبة أكبر احتياطي على مستوى قارة أفريقيا؛ فإن هذه الاحتياطيات تقع ضمن ما أُطلق عليه “الهلال النفطي” الليبي الذي لم يجعل من ليبيا نقطة تقاطع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، ولكن أيضًا يُلقي الضوء على أهمية الشرق الليبي، الذي تقع معظم آبار النفط الليبي في إطاره الجغرافي.

وهنا، تتبدى أهمية هذا الشرق، حيث أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، قبل أيام في 25 أكتوبر، أن إنتاج النفط الخام، خلال 24 ساعة، وصل إلى مليون و215 ألف برميل يوميًا؛ وهو إنتاج، في ظل الظروف التي تمر بها الدولة الليبية، يُمثل إنتاجًا جيدًا، ما يدفع كثير من القوى الدولية خصوصا الصين، والإقليمية مثل تركيا، إلى التنافس حول شرق ليبيا من أجل الفوز بنصيب من هذا الإنتاج.

في هذا السياق، يُمكن القول بأن دوافع كثيرة تدفع ائتلاف الشركات العالمية، إلى الاتفاق مع حكومة شرق ليبيا حول مشاريع سوف تُنفّذ في منطقة الشرق الليبي؛ حيث من المرتقب أن تُحدث هذه المشاريع قفزة في تنمية المنطقة، خاصة أن الائتلاف تقوده شركة السكك الحديدية الصينية، ويتضمن في إطاره عددًا من الشركات المتخصصة، مثل شركة “الكاتل” الفرنسية، و”سيمنس” الألمانية.. وغيرها.

ومن الواضح، أن تركيز الائتلاف على منطقة شرق ليبيا، يعود إلى ما تتمتع به المنطقة من مميزات، تجعل من الاستثمار فيها محاطًا بعوامل الاستقرار والأمان، التي يضمنهما الجيش الليبي، عبر تمكنه من فرض الاستقرار على المنطقة، خلال السنوات الماضية، بعيدًا عن صراع الميليشيات في غرب ليبيا.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock