لم تقتصر أعمال الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى على الإذاعة؛ بل كانت له بصمة مميزة في الدراما السينمائية والتلفزيونية، تبلورت مع فيلم “رابعة العدوية” عام 1963، الذي شارك في كتابة الحوار الخاص به مع مخرجه نيازي مصطفى، ومؤلفته سنية قراعة والمأخوذ عن قصتها (عروس الزهد) التي صدرت عام 1960.
ولقد كان من المفترض أن يتضمن هذا الفيلم قصيدة تائب أو توبة، من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى، ولكن مدة الفيلم لم تسمح بضمها إليه، فاكتفي بالأغنيات التي شدت بها أم كلثوم، من تأليف طاهر أبو فاشا وألحان رياض السنباطي ومحمد الموجي.
كما كتب أيضًا عبد الفتاح مصطفى، تتري البداية والنهاية لمسلسل “حدود الله” من تأليف الكاتبة سنية قراعة وألحان عبد العظيم عويضة وغناء علي الحجار.
وفي فيلم “فجر الإسلام” عام 1971، المأخوذ عن قصة عبد الحميد جودة السحار وإخراج صلاح أبو سيف؛ شدت المجموعة في نهاية الفيلم بنشيد الهجرة أو “إلى رحاب يثرب” وهو من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى وألحان محمود الشريف. “إلى رحاب يثرب، إلى ضياء الموْكب، إلى الزكي الطيب إلى النبي إلى النبي، سعيًا إلى نور النبي الهادي والرحمة الكبرى على العباد ومن يعادي الله فليعادي صبرا جميلا يا أخ الجهاد نفر بالروح من الضلال، وغير وجه الحق لا نبالي، فهوِّنوا لله كل غالي، من جيرة وصحبة وأهالي، ربنا أنت الأحد باسمك الجمع اتحد، وعدك الحق وهذا يومنا والجد جد، سنرى الفجر القريب، من دجى الليل العصيب، وبأيدينا سنرمي ويد الله تصيب، هذه الأمة قوة من صفاء وإخوة، وإن تحداها عدو، راح في أظلم هوة، كلنا يبغي شهادة، في يقين وإرادة، نحن نمضي للسعادة، انتصارا أو شهادة. ربنا أنت الأحد، باسمك الجمع اتحد. سنرى الفجر القريب من دُجى الليل العصيب، وبأيدينا سنرمي ويد الله تصيب. هذه الأمة قوة من صفاء وإخوة، وإن تحداها عدو، راح في أظلم هوة، كلنا يبغي شهادة في يقينٍ وإرادة، نحن نمضي للسعادة انتصارًا أو شهادة”.
إنها الكلمات التي باتت بعيدة عن حياتنا المعاصرة بعدما غلب عليها الركض والتكالب على مفاتن الدنيا وزينتها والالتهاء بتوفير أهم احتياجاتها بصعوبة بالغة، فانشغل كل فرد بما يخصه ويمتلكه مما جعله يغفل عن واجبه تجاه مجتمعه ووطنه وأمته، أو ربما اضطرته الظروف وقسوتها وما فُرِض من كبتٍ وتضييق إلى عدم التعلق بحُلم عام يعيد للأمة العربية والإسلامية عزها وأمجادها. ولذلك فإن الاهتمام بذلك التراث الذي أبدعه شعراء مصر وفنانوها ربما يكون هو السبيل إلى استدعاء روح الأمل في مستقبل أفضل يستحقه الوطن العربي والإسلامي.
أما فيلم الشيماء الذي أُنتِج عام 1972، عن قصة علي أحمد باكثير “شادية الإسلام” فلم يكن مجرد فيلم عادي، بل كان يعتمد بالأساس على صوت قيثارة السماء سعاد محمد التي شدت بكلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى من ألحان كل من عبد العظيم محمد، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، فارتبط المشاهدون بأغنيات الفيلم التي علقت بأذهانهم، ولم تزل إلى الآن تؤثر في كل من يستمع إليها وخاصة نشيد “طلع البدر علينا”، ونشيد “كم ناشد المختار ربه” الذي ارتبط بنهاية الفيلم وبمشهد دخول بجاد في الإسلام؛ مرددًا شهادة التوحيد في مشهد أجاد فيه الممثل القدير أحمد مظهر، وبرع في إخراجه مخرج العمل حسام الدين مصطفى.
وفي عام 1978، تم إنتاج مسلسل “على هامش السيرة” المأخوذ عن كتاب الدكتور طه حسين، وكتبت له السيناريو والحوار الكاتبة أمينة الصاوي وأخرجه أحمد طنطاوي، وكان يحمل بصمة الشاعر عبد الفتاح مصطفى، الذي كتب الأغنيات التي شدت بها المطربة ياسمين الخيام من ألحان الدكتور جمال سلامة.
وأيضًا من خلال صوت ياسمين الخيام وموسيقى الدكتور جمال سلامة، قدّم تتري البداية والنهاية للأجزاء الثلاثة الأولى من مسلسل “محمد رسول الله” التي كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى كما كتب السيناريو والحوار لهذا العمل المأخوذ عن كتاب عبد الحميد جودة السحار في أجزائه الخمسة التي أنتِجت في الفترة (1980-1985) وقام بإخراج الأجزاء الثلاثة الأولى منه المخرج أحمد طنطاوي، وأخرج أحمد توفيق الجزء الرابع، أما الجزء الخامس فأخرجه نور الدمرداش.
وقد حصل الشاعر عبد الفتاح مصطفى على جائزة أفضل سيناريو وحوار وأغاني عن هذا العمل الذي كان من أقوى الأعمال الدينية التي أنتجها التلفزيون المصري آنذاك بالتعاون مع صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات.
أما آخر الأعمال الدينية التي كتبها الشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى، فكانت المسلسل التلفزيوني “النبي ها هنا” عام 1984، وقد أسنِدت بطولته إلى الفنان محمود يس والفنانة مديحة كامل، وأخرجه محمود البربري، وغنى الفنان علي الحجار تتري البداية والنهاية للملحن مختار السيد الذي وضع الموسيقى التصويرية لهذا العمل.
فعلى مدار رحلة حياة امتدت منذ عام 1924 وحتى عام 1984، كانت مسيرة الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى –رحمه الله– حافلة بالكثير من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية إذ قام بتأليف ما يناهز التسعين تمثيلية، وحوالي سبعة عشر مسلسلا إذاعيا، أشهرها العمل التراثي (أغاني الأصفهاني) الذي ضم مئة وخمسين حلقة وأخرجه محمد محمود شعبان.
وقد تأخر تكريم الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى إلى ما بعد مرور أربعة وعشرين عامًا على وفاته، عندما منح اسمه جائزة نجيب محفوظ في مهرجان القاهرة للإعلام العربي عام 2008، ولكن التكريم الأمثل الذي يستحقه شاعر مثله هو أن يستمر بث أعماله دون إهمال لها؛ كي تتعرف عليها الأجيال الجديدة فتتعمق ثقافتها بتراث مصر الغنائي وتستعيد قدرتها على تذوق الثمين والقيِّم من الأعمال الفنية والأدبية والثقافية.
وما دمنا قد استخدمنا عبارة الأغنية الدينية، فحري بنا في ختام حديثنا عن روائع الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى الدينية، أن نلخص للقارئ ما قاله عندما سئل ذات مرة في حوار إذاعي معه عن رأيه في الأغاني الدينية، فذكر أن الأغنية الحلال أو المباحة هي أغنية دينية، وهي الأغنية التي تهذب النفس ولا تثير فيها الغرائز والنزوات بل تدفع الإنسان إلى التأمل في خلق الله، وإلى النشاط والعمل، أو تساعده على الترويح عن نفسه وإذهاب الحزن عنها ومن ثم حب الحياة والإقبال على السعي فيها؛ فالإسلام الذي هو دين الحياة ليس له ضوابط أو طقوس أو شعائر ترتبط بالغناء، ومن ثم ليس له أغنية توصف بالدينية، أي أن كل ما يستقيم في الحياة، بغير لبس شيطاني أو انحراف فهو مباح وديني.
أما مستقبل الأغنية الدينية وفقًا لرأي الكاتب والشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى والذي أوضحه في ذلك الحوار السابق فهو مرهون بيقظة أجهزة الإعلام، ويقظة الضمير العام، وتربية النشء على المبادئ والفضيلة، وزيادة النزعة الخُلقية والتوجيه الصالح؛ حينئذٍ لن تشيع الكلمات البذيئة أو الأغنيات المنحرفة لأن تذوق الناس سيستقيم مع كل كلمة طيبة ونغمة رقيقة عذبة تسمو معها الروح وتنشط بها النفس نحو كل عمل صالح وتنأى عن كل سبيل للغواية. أما مع إهمال الاهتمام بترقية الذوق العام وعدم الاكتراث بتنقيته مما يفسده ويصيبه بالقبح والابتذال والانحدار – فلن يكون هناك مستقبل للغناء الذي ترتقي به المجتمعات الإنسانية.
ولذلك يجب أن يكون هناك حرص عام على تربية النشء على تذوق جميل الألحان وأطيب الكلمات ولا نتركهم في عالم يثير الغرائز ويحط من القيم والأخلاق دون رقابة أو توجيه أو دون تقديم ما هو نافع وصالح ومُحبَّب إلى الأنفس السوية.
https://www.youtube.com/watch?v=A4KUiSi3aZs&t=46s