منذ استقلال إريتريا عنها في عام 1993، الذي شكل نقطة تحول استراتيجي في السياسة الإثيوبية، ترى أديس أبابا أنه لا يوجد سبب لأن تظل “دولة حبيسة”؛ خاصة أن افتقادها لشواطئ البحر الأحمر يحرمها من بعض المميزات والمكتسبات الاستراتيجية، التي تحظى بها دول القرن الأفريقي. ومن ثم.. فقد شرعت إثيوبيا، منذ تولي آبي أحمد السلطة، في أبريل 2018، في تبني “دبلوماسية الموانئ”، كجزء من المشروع الإثيوبي الإقليمي، الذي ينظر لمنطقة شرق أفريقيا، بما في ذلك القرن الأفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى، باعتبارها منطقة نفوذ إقليمي.
لذلك، وبهدف التغلب على الإشكالية الجغرافية، التي لازمت إثيوبيا منذ تسعينات القرن الماضي، انخرطت أديس أبابا في البحث عن بدائل متنوعة، من الموانئ البحرية في دول الجوار الإقليمي، للاعتماد عليها في إيجاد منفذ بحري لها على سواحل البحر الأحمر؛ وهو الأمر الذي يُثير عددًا من التساؤلات، حول أهمية المنفذ البحري، والدوافع التي تستند إليها إثيوبيا في هذا المسعى.
منفذ بحري
عقب صعوده إلى السلطة، قبل خمس سنوات، أعاد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، إحياء طموح أديس أبابا لامتلاك منفذ بحري على سواحل البحر الأحمر؛ حيث تعهد في خطابه الأول بإعادة بناء سلاح البحرية الإثيوبية، التي تم تفكيكها، في عام 1996، وعرض أصولها للبيع، بعد ثلاثة أعوام من استقلال إريتريا. وقد حاولت إثيوبيا الاستعانة ببعض الخبرات الدولية، للمساعدة في إعادة تأسيس قواتها البحرية؛ حيث أعلنت عن توقيع اتفاق عسكري مع فرنسا، في 14 مارس 2019، بقيمة 96 مليون دولار، يتضمن المساعدة في بناء قوة بحرية إثيوبية، في إطار سياسة بناء القدرات العسكرية لإثيوبيا. إلا أن الاتفاق تم تعليق العمل به، في إثر اندلاع الحرب الإثيوبية في إقليم تيغراي.
واللافت، أن محاولات أديس أبابا في امتلاك قوات بحرية حديثة، رغم كونها دولة حبيسة، إنما يعكس ليس، فقط، الدافع الإثيوبي للمطالبة، في فبراير 2022، بالانضمام إلى منتدى البحر الأحمر، الذي كان قد تأسس في 6 يناير 2020؛ ولكن، أيضًا، الرغبة الإثيوبية في توسيع تحركاتها لامتلاك منافذ بحرية على سواحل البحر الأحمر.
إذ، بالإضافة إلى أن إثيوبيا قد أبرمت اتفاقًا مع جيبوتي، في أول زيارة لآبي أحمد خارج إثيوبيا، في أبريل عام 2018، لشراء حصة من ميناء جيبوتي؛ فقد وقعت اتفاقًا مع السودان، في مايو 2018، للوصول إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، الذي يخدم منطقة الشمال الإثيوبي في التجارة مع الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا. وفي الشهر نفسه، مايو 2018، أبرمت اتفاقًا مع كينيا، لتسهيل الحصول على أراض في جزيرة “لامو”، كجزء من مشروع “لابسيت”، الذي يربط إثيوبيا مع كينيا وجنوب السودان. كذلك، وقعت اتفاقًا مع الصومال، في يونيو 2018، يتضمن الاستثمار الإثيوبي في أربع موانئ بحرية، أبرزها ميناء “جرعد”.
ولم يتوقف البحث الإثيوبي عن الموانئ، عند هذا الحد؛ فقد أعلنت هيئة موانئ دبي العالمية، في مايو 2018، توقيع اتفاق يُمكِّن إثيوبيا من الاستحواذ على حصة نسبتها 19 % في ميناء بربرة، بإقليم أرض الصومال؛ حيث تمتلك موانئ دبي حصة نسبتها 51 %، وحكومة أرض الصومال ما نسبته 31 %. إلا أن حكومة أرض الصومال أعلنت، في يونيو 2022، فقدان الحكومة الإثيوبية لحصتها في ميناء بربرة، بسبب عدم استيفاء الشروط المطلوبة لإتمام الصفقة قبل موعدها النهائي.
نفوذ إقليمي
المحاولة الإثيوبية لبناء أسطول بحري قوي، في محاولة لأن تصبح القوى الإقليمية الأقوى في أفريقيا؛ هذه المحاولة، ذكرها تقرير لمركز “مقديشو” للبحوث والدراسات، صدر عام 2019، واستند إلى تحليلات معهد “جيوبوليتيكال فيوتشرز” الأمريكي المتخصص في خدمات التنبؤ الجيوسياسي؛ حيث أشار التقرير إلى أن الدليل على ذلك، أن إثيوبيا قامت في السنوات الماضية بإصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، لتعزيز استقرارها الداخلي، وتأمين حدودها، وتوفير ميناء يساعدها على نقل صادراتها إلى العالم.
وأكد التقرير على أن الحقول النفطية المكتشفة في مناطق بإثيوبيا، وأخرى في سواحل الصومال وحدوده البحرية مع كينيا، يدفع أديس أبابا بقوة نحو بناء قوة بحرية، تشارك في حماية تلك المناطق، لاسيما الواقعة في سواحل الصومال، الذي ليس لديه جيش قوي قادر على تولي مسؤولية حماية هذه الثروة.
في هذا الإطار، من المرجح أن تستطيع إثيوبيا بناء قاعدة عسكرية بحرية، في إحدى دول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر، مثل الصومال أو كينيا؛ كما يحتمل أن تجد إثيوبيا موطئ قدم لها في جيبوتي، التي تستضيف العديد من القواعد العسكرية لقوى عظمى؛ إلا أن هذا الاحتمال ربما يكون بعيدًا بسبب مخافة إثيوبيا من تأثير القوى الدولية الكبرى على جيبوتي، بعدم السماح لإثيوبيا ببناء قاعدة عسكرية على شواطئها.
دوافع متعددة
ثمة عدد من الدوافع الاستراتيجية، التي تستند إليها إثيوبيا في محاولاتها لامتلاك منفذ بحري على سواحل البحر الأحمر.. أهمها ما يلي:
أولًا: تجاوز إشكاليات وضعية الدولة الحبيسة؛ إذ تدرك إثيوبيا منذ تحولها إلى دولة حبيسة في تسعينات القرن الماضي، بأنها فقدت جزءًا من مقومات قوتها الإقليمية، خاصة بعدما أعلنت عن تفكيك قواتها البحرية؛ وهو الأمر الذي دفع أديس أبابا لتكثيف البحث عن منافذ بحرية، تقلل من حدة إشكالية الوضعية الجغرافية لها. بل، إن امتلاك إثيوبيا لمنفذ بحري دائم على سواحل البحر الأحمر، كان قد مثل هدفًا للإدارات الإثيوبية المتعاقبة؛ من حيث إن نجاحها في التوصل إلى هذا الهدف، يترتب عليه استمرار تجارتها مع العالم الخارجي.
والملاحظ، أن هذا المسعى من جانب الحكومة الإثيوبية، إنما يأتي في اتجاه رفض أية ضغوط إقليمية، أو دولية عليها لكونها دولة حبيسة؛ كما أنها لا تريد تكرار تجربة إريتريا، التي بدأت، عقب ثلاث سنوات من انفصالها عن إثيوبيا، في فرض رسوم على التجارة الإثيوبية التي كانت تمر عبر ميناء مصوع بشكل مجاني.
ثانيًا: تعزيز المكانة الإقليمية للدولة الإثيوبية؛ فمنذ صعوده إلى السلطة، يبدو أن آبي أحمد يُخطط لأن تصبح إثيوبيا القوة الإقليمية الأقوى في أفريقيا، وهو الجوهر الأساسي للمشروع الإثيوبي الذي يقوم على تقوية النفوذ، وتعزيز المكانة الإقليمية، في منطقة القرن الأفريقي؛ بما يجعل إثيوبيا مقصدًا للاستثمارات الأجنبية، وبوابة مهمة للقوى الكبرى إلى دول المنطقة والعمق الأفريقي.
ومن ثم، تدرك إثيوبيا أن دول الجوار الإقليمي لها، وإن كانت تمتلك منافذ بحرية وسواحل على البحر الأحمر، لكنها لا تستغلها بسبب افتقارها للقدرات المالية واللوجستية؛ لذا، شرعت في التعاون مع دول الجوار، من خلال بناء الممرات والطرق البرية التي تربط بينها، مثل خط السكك الحديدية الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي، بطول 750 كيلو متر بتمويل من الحكومة الصينية.
ثالثًا: محاولة لعب دور في أمن البحر الأحمر؛ فمع القرب الجغرافي لإثيوبيا من سواحل البحر الأحمر، بمسافة لا تتجاوز 60 كيلو متر تقريبًا، تسعى إثيوبيا للانخراط في لعبة القوى بإقليم هذا الممر المائي الاستراتيجي، عبر محاولة التمركز على سواحله. إذ، يُمثل امتلاك منفذ بحري على سواحل البحر الأحمر، هدفًا استراتيجيًا لإثيوبيا، حيث يضمن لها وجود دائم عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية.
ولعل هذا الهدف، في حال تحققه، يؤسس لها “الحق” في لعب دور في معادلة أمن البحر الأحمر، وصولًا إلى امتلاك قاعدة عسكرية بحرية إثيوبية، بالقرب من باب المندب، بحجة تعزيز التجارة الخارجية الإثيوبية مع العالم الخارجي؛ والدخول على خط حماية مرور التجارة الدولية والملاحة البحرية في البحر الأحمر، وهو ذلك الهدف الذي كان آبي أحمد قد عبر عنه، عندما صرح، في فبراير 2022، بأن “أمن البحر الأحمر لا يتحقق دون مشاركة إثيوبيا”، في إشارة إلى تجاهل منتدى البحر الأحمر وخليج عدن لإثيوبيا.
هدف مستقبلي
في هذا السياق، يُمكن القول بأن آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، لا يُريد الاعتراف بأن إثيوبيا دولة حبيسة، ويبدو أنه يُدرك صعوبة تقوية وتوسيع النفوذ الإقليمي لبلاده، دون الوصول إلى الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي. رغم ذلك، تواجهه تحديات عديدة يصعب تجاوزها في المدى القريب؛ ففي الوقت الذي لا تمتلك فيه إثيوبيا الموارد اللازمة للاستثمار في الموانئ البحرية، فإن وضعية كهذه تقف حائلًا دون بناء قوة بحرية إثيوبية؛ بل، ودون إيجار القاعدة المطلوب توافرها للتدريب والعسكرة.
إلا أن مسألة الموانئ البحرية، كـ”هدف مستقبلي”، في القرن الأفريقي، ستبقى ذات أولوية استراتيجية بالنسبة للنظام الحاكم في إثيوبيا؛ من حيث كونها جزءًا من استراتيجية وطنية، صدرت في عام 2015، ومثلت أحد الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية لآبي أحمد، منذ صعوده للسلطة في عام 2018.