يبدو أن رفع لجنة السياسة النقدية لأسعار الفائدة ألف نقطة أساس خلال عام لم يعد كافيا لمواجهة الأزمة المتفاقمة التي أصابت اقتصاد البلاد، مع انخفاض حاد وخطير في قيمة العملة المصرية التي يصر صندوق النقد على إقرار سعر صرف مرن لها ضمن شروط، منها إحراز تقدم في بيع أصول الدولة.
الحكومة المصرية ترى أن الاستجابة إلى مطالبات الصندوق، دون تحسين سيولة العملات الأجنبية في السوق؛ لن يؤدي إلى حلحلة الأزمة، إذ أن المخاطر المتعلقة بتراجع سعر الصرف على هذا النحو، والآثار السلبية المرتبطة به – لن يمكن تجنبها قبل الانتهاء من المراجعة الأولى في إطار البرنامج الحالي مع الصندوق الذي يضغط بشدة من أجل تعويم جديد.
ووفق تقرير غولدمان ساكس فإن “التخفيضات المتعددة لقيمة العملة المصرية خلال العام الماضي قد أدت إلى جعل الجنيه المصري أقل بنسبة 25% تقريبا من قيمته العادلة، المحتسب على أساس متوسط سعر الصرف الفعلي الحقيقي في 10 سنوات”.
وهو ما يعني أن السعر المرن المطلوب لن يعني سوى مزيد من التضخم، ورفع تكلفة الواردات والمساهمة في تقييد الوصول إلى العملات الأجنبية.. وهو ما يعني أيضا تحول تدفقات العملات الأجنبية بعيدا عن السوق الرسمية، خاصة تحويلات المصريين المغتربين، وتشجيع الممارسات السيئة مثل الإفراط في “فوترة” الواردات / الصادرات بأقل من قيمتها، وغياب تكافؤ الفرص في السوق، وضعف التنافسية بسبب توفر العملات الأجنبية لفئات دون أخرى.. ومن ثم تشويه المشهد برمته.. وفق ما جاء بالتقرير المشار إليه.
الوضع الحالي لا يدعم الاستثمار المحلي أو الأجنبي، فمع ازدياد المتداول من العملات الأجنبية خارج السوق الرسمية، يصبح تحديد سعر الصرف أكثر اعتمادا على السوق الموازية، وهو ما يجعل السعر الرسمي أقل أهمية في كافة التعاملات.
انخفاض الثقة في الأداء الاقتصادي المصري، وفي مدى قدرته على الوفاء بالتزاماته وخاصة فيما يتعلق بسداد مدفوعات سندات العام- فاقمت مخاوف بعض المستثمرين، ودفعت إلى مزيد من التحوط من مخاطر الديون المصرية التي قفزت إلى مستويات غير مسبوقة.. إذ تتداول سندات مصر الخارجية بنسبة 86% عند مستويات التعثر، بأكثر من 1000 نقطة أساس فوق سندات الخزانة الأميركية.. وهو ما يعني انعكاس منحنى الائتمان بما يحمل من دلالة على “أنَّ السوق ترجّح بشكل أكبر التخلف عن السداد على المدى القريب” كما يرى غوردون باورز، المحلل في “كولومبيا ثريد نيدل إنفستمنتس” بلندن. والذي أضاف أنَّ “صبر السوق بدأ ينفد بسبب عدم إحراز تقدّم، فضلا عن ظهور إشارات على عدم مرونة الحكومة في وقت ليست لديها الأفضلية في المفاوضات”.
بينما يرى “كان نازلي” المدير المالي في “نيوبرغر برمان في لاهاي أنَّ “السوق قلقة بشكل متزايد بشأن تحديات التمويل”، على الرغم من أنَّه من غير المرجح أن تتخلف مصر عن السداد في المدى القريب. وأضاف “لكي تتغير المعنويات بشكل حاسم، سنحتاج إلى رؤية المزيد من الدعم الخارجي، عبر تعزيز برنامج صندوق النقد الدولي، أو تسريع مبيعات الأصول أو الدعم الخليجي، أو كليهما، وهو ما سيكون أمرا مثاليا”.
وتقدّر وكالة موديز إنفستورز سيرفيس إجمالي ديون مصر الخارجية بنحو 155 مليار دولار حتى سبتمبر 2022، منها 27.5 مليار دولار التزامات قصيرة الأجل. وتجدر الإشارة إلى أنَّ “موديز” منحت مصر أقل تصنيف سيادي بين خبراء تقييم الائتمان الثلاثة الرئيسيين بعد أن خفّضت التصنيف في فبراير إلى “B3”.
وبحسب ستاندرد آند بورز فقد لا تغطي مصادر التمويل المصرية متطلبات التمويل الخارجي المرتفعة” للسنتين الماليتين الحالية والمقبلة، والتي تُقدَّر بنحو 37 مليار دولار بشكلٍ تراكمي.. وكانت الوكالة ذاتها قد أبقت تصنيف مصر عند (B) أي أعلى بسبع درجات من مستوى التخلف عن السداد، بالتساوي مع نيكاراغوا والجبل الأسود وأوغندا.. وتوقعت الوكالة أن يصل انخفاض قيمة العملة المحلية إلى حوالي 53% بنهاية السنة المالية الحالية حتى 30 يونيو، مقارنةً بسعر الصرف قبل 12 شهرا. على أن “يتبعه انخفاض متواضع في السنوات اللاحقة” كما قدّرت الوكالة، متوسط احتياطيات البنك المركزي الإجمالية بحوالي 32 مليار دولار خلال تلك الفترة، وهو أقل بملياري دولار عن ما ارتفعت إليه احتياطيات المركزي المصري خلال الشهور الأخيرة.
وبحسب الوكالة ذاتها فإن حوالي 70% من الدين الحكومي المصري هو محلّي وبالجنيه، في حين توجِّه الحكومة أكثر من 40% من إجمالي إيراداتها لخدمة مدفوعات الفوائد، وهي ثالث أعلى نسبة من بين 137 دولة، تصنفها الوكالة على مستوى العالم.
وتشهد السوق المصرية حركة يومية محدودة للعملات الأجنبية بسعر الصرف الرسمي، ويرجع ذلك إلى الطلب المحدود على الدولار، حيث تسود حالة من التردد بخصوص شراء العملة الصعبة، في حين تنتشر الشائعات عن قرب تعويم العملة المحلية مجددا.
وقد واصل التضخم في مصر ارتفاعه القياسي ليصل إلى أعلى مستوى له خلال خمس سنوات وسبعة أشهر، نتيجة الارتفاع المتواصل لأسعار السلع والخدمات. حيث أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن أسعار المستهلكين في مدن مصر قفزت بنسبة 32.7% خلال مارس الماضي على أساس سنوي. في حين أن معدل التضخم الأساسي الذي يستثني أسعار السلع الأكثر تقلبًا بلغ 39.5% خلال نفس الشهر.
وفي محاولة منها لتقليل آثار التضخم الحاد، رفعت مصر موازنة الدعم والحماية الاجتماعية للسنة المالية المقبلة 48.8%، لتقفز إلى 529.7 مليار جنيه من 358.4 مليار جنيه السنة الحالية.. وقد صرّح وزير المالية المصري أن هذا القرار جاء كمحاولة للتخفيف عن المواطنين في ظل الموجة التضخمية العالمية.. في إشارة واضحة إلى أن الأزمة ذات أسباب خارجية، وأن الأداء الحكومي وأولويات الإنفاق والتوسع في الاقتراض، لا تعتبر عوامل جوهرية ضمن أسباب تفاقم الأزمة التي تتصاعد حدتها يوما بعد يوم دون وجود مؤشرات قوية تؤذن بانتهائها أو انحسارها ولو بشكل جزئي طفيف.