رياضة

“بيليه”.. الساحر الذي حرر البرازيل من “عقدة مونغريل”!

“لقد أخرجنا البرازيل من هوَّة سحيقة، أعدنا الشعب للثقة بنفسه مجددا، لقد تحرر أخيرا من “عقدة مونغريل” وأصبح مزهوا بوطنه”. بيليه

“مَثّل عام 1950، عام الإخفاق القومي الذريع، عام تحطّم أرواح ومعنويات البرازيليين، وفقدانهم الثقة بأنفسهم.. وقد ابتدع الكاتب والمسرحي والروائي البرازيلي نيلسون رودريغوس، مصطلحا جديدا للتعبير عن الحالة البرازيلية بعد الهزيمة، وهو مصطلح “عقدة مونغريل”، في إشارة منه إلى خواء البرازيل وذبولها وهامشيتها وتلاشيها، مُشيدا بقدرات وعظمة الآخرين “الآخرون رائعون، ونحن بلا قيمة”.

يشير اسم مونغريل إلى كلاب الشوارع، وكأن رودريغوس أراد القول إن فشل البرازيليين الدائم قد شَكّل عندهم عقدة يمكن أن تحوّلهم إلى أمة من كلاب مونغريل. وهذه الكلاب هي مضرب المثل في البرازيل لكل ما هو سيئ.

في عام 1950، نظمت البرازيل بطولة كأس العالم لكرة القدم.. تلك البطولة التي انتهت بكارثة ماراكانا حيث شهدت انتحارا جماعيا لعشرات المشجعين البرازيليين من فوق مدرجات الاستاد الشهير، عقب هزيمة الفريق البرازيلي في المباراة النهائية أمام الأورجواي التي حصدت الكأس بعد الفوز بهدفين لهدف.. كان يكفي الفريق البرازيلي التعادل لاقتناص الكأس الغالية، حسب نظام البطولة آنذاك.

أدخلت “الماراكانزو” الشعب البرازيلي في نفق مظلم من الحزن والاكتئاب، وفقدان الأمل بعد ضياع الحلم البرازيلي في حصد الكأس الذهبية.. كأس جول ريميه في دورتها الرابعة.

كان البرازيليون قد شاركوا في النسخ الثلاث السابقة، وبلغوا نصف النهائي كأبعد نقطة وصول، قبل احتلال المركز الثالث بالفوز على السويد في آخر بطولة، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية وإلغاء بطولتي 1942، 1946.

ربما يُفسر هذه الحالة من الحزن المفرط التي انتابت البرازيليين عقب الهزيمة- الرجوع إلى بدايات وجود اللعبة في البلاد، والتي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر.. عندما عاد الطالب تشارلز ميلر من بعثة دراسية في إنجلترا، ومعه كرتان وكتيب صغير يتضمن قانون وقواعد اللعبة.

لقد وجد غالبية السكان المحرومين من الكثير من الحقوق المدنية بنص الدستور- ضالتهم في تلك اللعبة التي لم تعرف التفرقة العنصرية والطبقية المقيتة؛ لتصبح ملاذا بل خبزا مقدسا للفقراء الراسفين تحت نير “الجمهورية القديمة”.

في كتابه “اختراع اللعبة الجميلة”، يشير أستاذ التاريخ في جامعة ترانسيلفانيا جريج بوكيتي، إلى أن كرة القدم استخدمت كأداة لتوحيد الشعب البرازيلي بكافة أعراقه وطوائفه؛ لتصنع اللعبة من هذا المزيج غير المتجانس – أمّة واحدة تحت راية موحدة.. وكان ذلك وفق سياسات واضحة عززت التوجه القومي في البلاد، منذ ثلاثينات القرن الماضي على يد رئيس الجمهورية الأسبق جيتوليو فارجاس.

مساء الأحد السادس عشر من يوليو عام1950، عاد الطفل إديسون ابن العاشرة من عمله في مسح الأحذية إلى منزل أسرته المتواضع؛ ليجد والده عامل تنظيف المراحيض بإحدى مشافي مدينة باورو – منهارا في حالة بكاء مرير؛ كان الصغير يعرف أن أباه المسكين كان لاعبا موهوبا، لو جرت أموره على نحو جيد؛ لربما كان ضمن نجوم الفريق البرازيلي، لكن إصابة بالغة في الركبة أنهت مسيرته الكروية، وألجأته إلى امتهان أعمال بسيطة، ليدبر لأسرته الحد الأدنى من تكاليف المعيشة.

“في يوم لن يكون بعيدا.. سأجلب تلك الكأس إلى هذا المنزل”. قالها إديسون الذي يسميه رفاقه “بيليه” تندرا؛ فابتسم الأب وسط فيض دموعه، وعانقه، وهو يرجو الله أن يحقق للصغير حلمه.

في سن الحادية عشرة، حصل بيليه على أول حذاء رياضي، بعد أن كان من بين الذين اختارهم اللاعب السابق “فاليمار دي بريتو” الذي كان يكتشف المواهب، ويضمها إلى نادي “أتليتيكو باورو” للناشئين- حتى استطاع الانضمام للفريق عام 1954.

فاز بيليه مع الفريق بكأس الناشئين، وسجّل أكثر من مئة هدف في ثلاث وثلاثين مباراة، ما أهَّله بمساعدة دي بريتو للانضمام لنادي سانتوس.

يروي مؤرخ النادي جييرمي جوارشي تلك الأحداث قائلا: “عام 1956، وصل من مدينة باورو، فتى نحيل سرعان ما التحق بتدريبات الفريق الأول الذي كان بطلا للولاية العام الماضي، ومتصدرا للترتيب في العام الحالي.. تساءل الجميع عن هذا اليافع الذي يراوغ الكل بلا توقف”.

في أولى المشاركات الرسمية أمام فريق كورينثيانز في نفس العام سجل بيليه هدفا رائعا، وفي العام التالي استدعي؛ ليكون ضمن تشكيلة السيليساو.

كانت الكرة البرازيلية الجميلة المعتمدة على المهارات الفردية للاعبين، والأقل اعتمادا على اللعب المنظم والخطط، والمعروفة اصطلاحا باسم “چنغا” – هي أحد المتهمين الرئيسيين في كارثة “الماراكانزو” لدرجة أن الأندية البرازيلية اعتبرتها سببا كافيا للتخلي عن اللاعبين المتمسكين بها.. بالتأكيد كان بيليه “چنغا” قلبا وقالبا.. وقد استطاع بعد جهد كبير، وإحباطات متعددة إقناع مدربي سانتوس بوجهة نظره، أما في السيليساو، فقد كان الأمر أكثر صرامة لاستحكام عقدة الطريقة الأوروبية في اللعب.. في حضور المدرب فيسنتي إيتالو فيولا.

في السويد وقع البرازيليون في المجموعة الرابعة التي ضمت إلى جانبهم إنجلترا والاتحاد السوفيتي والنمسا التي هزمها السيليساو في المباراة الأولى بثلاثة أهداف دون رد، أحرزها جوزيه ألتافيني في الدقيقتين 37، 85 ونيلتون سانتوس في 50، والتقى نجوم السامبا في المباراة الثانية مع إنجلترا القوية وانتهى اللقاء بالتعادل دون أهداف، ليختتم الفريق مبارياته في الدول الأول بفوز مستحق على الاتحاد السوڤييتي بهدفين لـ فافا بعد بداية اللقاء بدقيقتين، وقبل نهاية اللقاء بثلاث عشرة دقيقة.. مع مشاركة بيليه بديلا في الشوط الثاني.

انتقل الفريق للدور الثاني بثلاثة مهاجمين مصابين، ما حتّم اشتراك بيليه غير المتماثل للشفاء نهائيا، أمام ويلز.. ويحرز الفتى هدفه الأول في بطولات كأس العالم في الدقيقة السادسة والستين، لتخرج به البرازيل فائزة؛ لتلاقي فرنسا.. التي صال وجال أمام منتخبها سحرة الـ “چنغا” بقيادة بيليه الذي أحرز ثلاثة أهداف بالإضافة لهدفي فافا وديدي؛ لتخرج البرازيل فائزة بخمسة أهداف لهدفين لفونتين وبيانتوني.

وفي المباراة النهائية أمام فريق البلد المستضيف السويد، الذي تقدم له ليدهولم مبكرا، ليرد بيليه وفافا وزاجالو بخمسة أهداف، بينما أحرز سيمونسون للسويد هدفا شرفيا قبيل النهاية بعشر دقائق.. ليعود بيليه ورفاقه إلى البرازيل بالكأس الغالية التي أقامت أمة عملاقة من رقادها، وأهّلتها لمكانة عظيمة تستحقها في شتى المجالات، قبل أن تدخل البلاد مجددا في نفق مظلم استمر لأكثر من عقدين من الزمان تحت الحكم الدكتاتوري العسكري المدعوم أمريكيا، بعد الإطاحة بالرئيس الديمقراطي المنتخب، جواو غولار.. وهو لم يحرك بيليه حياله ساكنا، ما جعله مثار انتقاد الكثيرين.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock