رغم أن تشاد لا تطل على فضاءات جيوسياسية متعددة، إلا أن موقعها بين السودان وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى ونيجيريا والكاميرون، منحها موقعًا متميزًا بالنسبة إلى عديد من القوى الدولية -خاصة فرنسا- بل وصاغ طبيعة مشاركتها في الحرب ضد تنظيمات العنف والجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، لتنطلق من مركزها إمكانية متابعة وإدارة مصالح القوى الدولية في الدول المجاورة لها.
وقد كشف انتشار قوات عسكرية فرنسية، على حدود تشاد والسودان “بدون ترخيص”، الغطاء عن عدد من الدوافع الفرنسية في مثل هذا التواجد العسكري؛ سواء ما يخص منها أهمية تشاد كـ”مرتكز للنفوذ” الفرنسي في منطقة الساحل، أو ما يتعلق بالتنافس مع روسيا حول هذا النفوذ، خصوصًا مع انتشار مجموعة “فاغنر” في الجوار الإقليمي لتشاد؛ هذا فضلًا عن رغبة باريس في محاولة إبعاد الولايات المتحدة عن المنطقة الفرانكفونية، خاصة في أفريقيا الوسطى المجاورة لكل من تشاد والسودان.
عوامل متشابكة
يعتمد انتشار القوات الفرنسية في تشاد، ومنطقة الساحل عمومًا، على اتفاقيات الشراكة بين فرنسا وهذه الدول؛ وغالبًا ما يتم تبرير هذا التواجد الفرنسي بالتعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو الحركات المتمردة.
إلا أنه، رغم هذه الاتفاقيات، فإن ثمة عوامل متشابكة تدفع فرنسا إلى مثل هذا التواجد العسكري في تشاد.. أهمها ما يلي:
أولًا: الحفاظ على تشاد كمرتكز للنفوذ في الساحل؛ فقد أدى توقيف الحرس الجمهوري التشادي للقوة الفرنسية، التي كانت تتجول قرب “أدري” الحدودية مع السودان، بالتزامن مع وجود الرئيس ديبي، لضمان الإغلاق الفعال للحدود مع السودان، إلى إظهار المصلحة المشتركة بينهما، باريس ونجامينا، في إضعاف المعارضة التشادية التي تقاتل إلى جانب قوات الدعم السريع في الخرطوم.
واللافت، أن هذه المصلحة المشتركة ليست وليدة اليوم، أو نتيجة لما يحدث في السودان من صراع عسكري فقط؛ بل أيضًا هي جزء من تاريخ طويل، لعبت فيه فرنسا دور المدافع عن حماية أنظمة الحكم المتوالية في تشاد، منذ استقلالها عام 1960، وحتى الآن.. حيث يُمثل التواجد العسكري الفرنسي في تشاد، مرتكزًا للحفاظ على النفوذ في منطقة الساحل. فقد كانت عملية “سيرفال”، ومن ثم عملية “برخان”، الفرنسيتان في مالي، منذ عام 2013، تعتمدان على القوات التشادية في تنفيذها.
ثانيًا: أهمية تشاد الاقتصادية بالنسبة إلى فرنسا؛ حيث تتمتع فرنسا وتشاد بعلاقة وطيدة، من منظور المصالح الاقتصادية الفرنسية في هذا البلد، وفي إقليم الساحل عمومًا. إذ، تُعد فرنسا أحد الشركاء الرئيسيين لتشاد؛ فالصادرات الفرنسية تُغطي المنتجات الغذائية الزراعية والمعدات الميكانيكية والكهربائية وتكنولوجيا المعلومات، فيما تعود الواردات من تشاد بشكل أساسي إلى انتعاش مشتريات الهيدروكربون، وكذلك منتجات الصمغ العربي؛ هذا، فضلًا عن أن أكثر من 20 شركة تابعة للشركات الفرنسية تعمل في تشاد، في مجالات اقتصادية متنوعة.
وبحسب الأرقام التي تذكرها الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، التي تعمل في منطقة بحيرة تشاد، وتدعم التخطيط الحضري في نجامينا وموندو، فقد بلغ إجمالي التزامات الوكالة في تشاد 68 مليون يورو في عام 2017، و77 مليون يورو في عام 2018، ومنذ ذلك العام، 2018، تقدم باريس دعمًا سنويًا لنجامينا بصورة مستمرة؛ أما بعد اتفاق “سلام الدوحة”، بين السلطات الانتقالية التشادية و43 جماعة سياسية وعسكرية تشادية، قدمت فرنسا حزمة محفزة من المساعدات المالية، لدعم العملية الانتقالية وضمان الأمن في تشاد.
ثالثًا: الحد من التداعيات السلبية للصراع السوداني؛ فقد طلبت تشاد، خلال الأيام القليلة الماضية، من باريس نشر قوات على الحدود مع السودان. وكما يبدو، فإن فرنسا تحاول الحد من ارتدادات الصراع في السودان، التي ستُحدث حراكًا إقليميًا في الجوار الجغرافي للسودان، خاصة تشاد، التي أعلن رئيسها من اليوم الأول لاندلاع الصراع وقوفه مع الجيش السوداني.
وبالنظر إلى قرب السودان من تشاد، الدولة التي عانت من النشاطات المدمرة لجماعات التطرف والعنف، بما فيها “بوكو حرام”، والجماعات التي انبثقت منها مثل تنظيم “داعش في غرب أفريقيا”، خلال العقد الماضي، فإن القتال الدائر في المناطق المدنية من السودان، مثل الخرطوم وأم درمان، يمكن أن يكون له نتائج كارثية على الداخل في تشاد. أضف إلى ذلك، أن السودان له دور مهم ومؤثر، في استقرار أو عدم استقرار الوضع السياسي في تشاد؛ فأغلب حركات التمرد التشادية، التي وصلت إلى الحكم أو تلك التي لم تنجح بالوصول إلى الحكم، كانت تنطلق من السودان، وخاصة من إقليم دارفور؛ إذ، كان الإقليم، يُمثل المأوى بالنسبة إلى الحركات المتمردة، خاصة المسلحة.
رابعًا: تأكيد التواجد الفرنسي في إطار التنافس الدولي؛ حيث تطورت الأحداث بشكل متسارع، في تشاد وأفريقيا الوسطى المتاخمتين لإقليم دارفور غرب السودان، تزامنًا مع تصاعد المواجهات العسكرية في الإقليم؛ وهو الأمر الذي يُمثل تحولًا في التنافس الفرنسي الروسي على مناطق النفوذ الفرنسي التقليدي، وتسابقًا على “المعادن النفيسة” هناك، مما سينعكس على مسار الصراع في الخرطوم.
ونظرًا لاشتراك السودان في حدوده مع سبع دول، ولأنه محور تقاطع مصالح وتطلعات متعددة من قوى دولية على رأسها روسيا؛ لذا، فإن أكثر ما تخشاه باريس هو الانعكاسات السلبية على الاستقرار الإقليمي، إذا اشتد الصراع، بما يمكن أن يُفيد منافسيها.
خامسًا: محاولة التحكم في نشاط مجموعة “فاغنر”؛ حيث تُمثل هذه المجموعة الروسية، في مناطق النفوذ الفرنسي، استفزازًا متصاعدًا لباريس، خاصة بعد الأحداث الأخيرة من تمرد قائد فاغنر على القيادات العسكرية الروسية. فقد بدا لافتا سيطرة قوات الدعم السريع، مؤخرًا، على منطقة “أم دافوق” في ولاية جنوب دارفور الحدودية مع أفريقيا الوسطى، بعد تزايد نشاط المعارضة المدعومة فرنسيًا، وتقدمها نحو العاصمة “بانغي” التي تحظى حكومتها بدعم من فاغنر الروسية وقوات الدعم السريع.
مصالح مشتركة
في هذا السياق، يُمكن القول بأن فرنسا، التي تحتفظ بقواعد عسكرية قرب العاصمة نجامينا، في إطار ما كان يُطلق عليها عملية “إبيرفييه”، قبل أن تستبدلها، في أغسطس 2014، بعملية “برخان” التي اتخذت من تشاد نقطة لتنفيذ عملياتها في مالي والساحل الأفريقي.. تسعى إلى الحفاظ على تواجدها العسكري في تشاد، لأجل الحفاظ على المصالح الفرنسية في منطقة نفوذها التقليدي؛ فضلًا عن حماية الحكم الانتقالي في هذا البلد، في مواجهة الحركات المتمردة من المعارضة التشادية.
ومن ثم، يبدو أن “المصالح المشتركة” هي ما تقود التقارب بين نجامينا وباريس؛ حيث تُدرك باريس أهمية تواجدها العسكري هناك، خاصة في ظل الصراع الجيوسياسي متعدد المناحي في السودان، الذي تخشى فرنسا من أن يُصبح مُعقدًا أكثر من وضع ليبيا، التي تراجعت فيها فرنسا لحساب التنافس الدولي، خاصة مع إيطاليا.