رؤى

“سجال الديمقراطية” (1) إمكانية المواطن.. في تجاوز الدولة

في ما اهتدت إليه التجربة الإنسانية – حتى الآن- توفر الديموقراطية الآليات الأكثر فاعلية لحل التناقضات السياسية والمذهبية والمجتمعية بشكل سلمى.. وذلك من حيث إنها – في جوهرها- عملية للحكم تستهدف تنظيم ممارسة السلطة السياسية، في الحدود التي لا تُهدر حرية الإنسان، من حيث كونه مواطنا يتنازل عن جزء من هذه الحرية لضمان الحفاظ على الجزء الآخر.

الديموقراطية إذن عملية تنظيمية بالأساس، يتمثل محورها في ضمان حقوق المواطنين، من حيث هم “مواطنون لا رعايا” إزاء السلطة. ومن ثم فهي ترتبط بمجموعة من القيم والأعراف الإنسانية العامة مثل: التسامح والتعايش واحترام الآخر والحوار والحل السلمي للخلافات، أكثر من ارتباطها بمنظومة عقيدية (أيديولوجية) ما، وإن كان لكل منها رؤية محددة في كيفية تحقيق الديموقراطية.

في هذا الإطار، نجد أنفسنا مباشرة في مواجهة السجال الدائر الآن، على الساحة السياسية العربية حول الديموقراطية.. السجال الذي يتبنى البعض من خلاله، محاولة تفسير أزمة التخلف الوطني، والانهيارات المتتالية في “النظام الإقليمي العربي” وصولا إلى التوترات الداخلية في أكثر من بلد عربي، على أنها ترتكن إلى غياب الديموقراطية.

بيد أن حال الضعف العربي العام، وفقدان المناعة الأمنية الكاملة وغيرها، لا يمكن نسبتها إلى مجرد عامل واحد ووحيد هو “غياب الديموقراطية”. إذ رغم الأهمية التي تتمتع بها الديموقراطية بوصفها عاملا مجتمعيا مؤثرا؛ إلا أن هناك مجموعات شتى من البلدان، وكذا مجموعات إقليمية عدة، تفتقد الديموقراطية كما نفتقدها نحن، ولكنها لا تعاني ما نعانيه من حال “الفراغ الاستراتيجي” التي تدفع كافة المتغيرات السياسية الدولية ـ المتناقضة في أحايين كثيرة ـ إلى النيل منا في الوقت نفسه، وكأنها ليست متغيرات سياسية تختلط فيها الفرص بالمخاطر، وتثير ـ من ثم ـ احتمالات الانتصار والانكسار.

يعني هذا أن ثمة مجموعة من العوامل المتشابكة يمكن من  خلالها تفسير الأزمة العربية الراهنة؛ وأن الديموقراطية تأتي ضمن هذه العوامل. رغم ذلك نجد أنفسنا مدفوعين إلى “الدخول على الخط” مع السجال الدائر الآن حول المسألة الديموقراطية.

ولكن ما يجدر التنويه إليه.. هو أن محاولتنا سوف تنأى عن الانجرار إلى ما يطرحه البعض من مفاضلة بين الاستبداد الذي يُسم جل النظم السياسية العربية.. والديموقراطية الغربية حتى لو جاءت من الخارج وأنتجت احتلالًا (النموذج العراقي سابقا).

وفى سياق المرحلة التي يُعايشها العالم راهنا، والتي تُعبر ـ في حقيقتها ـ عن مناخ عالمي جديد بما يشتمل عليه من متغيرات دولية جذرية، وبما يتضمنه من محاولة لتسييد النموذج الغربي، تتبدى ضرورة طرح التساؤل التالي، حول المسألة الديمقراطية وموقعها داخل هذا المناخ الجديد: ترى هل يُعزز المناخ المشار إليه الديمقراطية في العالم، أم أنه في الواقع سوف يجهضها، أو أن النتيجة سوف تكون مختلطة.. تعزز المسألة الديمقراطية من جانب، وتحبطها من جانب آخر. ثم.. هل أن الديموقراطية الغربية تمثل النموذج الذي يجب أن يحتذى من جانب المجتمعات الإنسانية؛ أم أنها محض صورة إعلامية يجري الترويج لها، للتغطية على جوهرها  الحقيقي المتمثل في كونها ديموقراطية الأقوى، داخليا وخارجيا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.. بل، وثقافيا أيضا.

في اعتقادنا أن ترجيح أي من الاحتمالات التي ينطوي عليها التساؤل حول المناخ العالمي الجديد، وتناقضاته بخصوص المسألة الديموقراطية، إنما يعتمد على قياس مدى تأثير العوامل، التي تشكل في مجموعها أساسيات ذلك المناخ إيجابًا أو سلبًا، على المسألة المطروحة.

وحسبنا أن نقرر أن أهم هذه العوامل عاملان: أولهما، قدرة الإنسان الفرد على تجاوز حدود الدولة التي يعيش فيها؛ والأخر التراجع الحاصل في سيادة الدولة.

في ما يتعلق بالعامل الأول، لنا أن نلاحظ أن الإنسان الفرد أصبح يستطيع التعامل بمفرده مع العالم كله مباشرة، وليس من خلال حكومة أو دولة، وذلك من خلال شركة السياحة أو طبق الاستقبال التلفزيوني، أو شبكة المعلومات الدولية.

وإذا كان ممكنا لهذا الإنسان – بحكم الثورة الاتصالية الراهنة ـ أن يحمل بطاقة بلاستيكية (ما ستر كارد، أو فيزا كارد، أو غيرهما) ويستخدمها بالطريقة نفسها في عواصم العالم كافة، فإن الحاجة إلي الدولة ونقودها أصبحت أقل من ذي قبل.

بل إذا كان الفرد والهوية النفسية والعاطفية التي يندرج تحتها، يمكنه التعامل مع العالم مباشرة دون وسيط؛ فإنه لم يُعد مبررًا البقاء داخل اتحادات مصطنعة، لا تكن الشعوب فيها كثيرا من الود لبعضها البعض؛ ولعل هذا ما يُفسر الانفجارات المجتمعية التي نراها في غير ما مكان في العالم.

هنا تتبدى أهم الآثار الإيجابية بالنسبة إلي المسألة الديمقراطية. إذ إن انهيار “الحواجز الاتصالية” بين كافة أرجاء المعمور الذي نعيش بين جنباته، ساهم وسوف يساهم، في تعميق نقل الخبرات السياسية  وغير السياسية في ما بين الشعوب؛ وهو الأمر الذي يُفسح المجال أمام بعض الشعوب، وخاصة تلك الأقل تقدما بالمعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتعرف أولا ماذا يجري لدى الشعوب الأخرى الأكثر تقدما، ولتستفيد ثانيا من خبرات هذه الشعوب، ولتقارن ثالثا بين أوضاعها وأوضاع شعوب تمارس حقها في إدارة شئون أوطانها، وفى اختيار من يمثلها في الحكم.

بل إن انهيار الحواجز الاتصالية، وما أدى إليه من انكشاف ما في داخل الدول أمام تقنية الاتصالات والمعلومات، أظهر بوضوح ضعف قدرات النخب الحاكمة، خاصة في بلدان الإطار الجنوبي، على إخفاء حقيقة التطورات والممارسات التي تجري داخل بلدانهم.

ويعنى ذلك أنه لم يعد في مقدور هذه النخب ممارسة أفعال من شأنها تشويه صورتها في الخارج، في ظل وجود احتمال خلق رأى عالمي عام مضاد لها، كما أصبح لزامًا عليها تخفيف القيود المفروضة على أجهزة الإعلام في الداخل. إذ ما جدوى تقييد حرية الإعلام في الوقت الذي يستطيع المواطنون في هذه البلدان، أن يعرفوا ما يجرى داخلها من خلال أجهزة الإعلام الأجنبية.

ولكن.. ماذا عن تراجع دور الدولة؟ هل له من إيجابيات، أم أنه لا يحمل سوى السلبيات؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock