بحسب موقع “الشرق بلومبرغ”، وهو النسخة العربية من بلومبيرج الأمريكية ، فإن إجمالي ما أنفقته كل أندية كرة القدم العربية على شراء اللاعبين خلال عقد كامل يمتد من 2011 إلى 2020 بلغ 1.454.4 مليار دولار. أما ما باعته خلال نفس الفترة فوصل إلى 549 مليون دولار. وهو ما يشير إلى تحمل خسارة تقدر بنحو 62% من مجموع ما أنفق.
وبرغم تلك الخسارة ما زال الإنفاق العربي على شراء لاعبي الكرة يرتفع إلى أن شهدنا في 2023، نموذجا عربيا سعوديا هو الأول من نوعه كمًّا وكيفًا، يعرض على اللاعبين أرقاما مذهلة ويستهدف نوعية خاصة منهم لم تعرفها منطقتنا من قبل. وقد جرى ذلك فجأةً دون أن يتوازى معه إصدار كشف حساب يبين حجم الخسائر التي وقعت، أو تواكبه دراسات جدوى عن العائد المتوقع من النهج الجديد، الذي لا يُعرف بعد إن كان مغامرة أم مخاطرة. يُذكر أن الأندية السعودية كانت قد اشترت خلال عقد كامل، من 2011 إلى 2020، لاعبين بما قيمته 586.3 مليون دولار أو ما يوازي 40% من إجمالي ما أنفقته كل الأندية العربية، وباعت خلال نفس الفترة ما بلغ إجماله 105 مليون دولار، ما يعني أن أندية المملكة تحملت خسارة تصل إلى 82% من مجموع ما أنفقته.
لكن شراء اللاعبين تواصل باندفاع ملحوظ خلال الشهور القليلة الفائتة من العام الجاري، مستهدفا زبدة كرة القدم العالمية.. ومن الصعب في هذه اللحظة حصر كلفة أكبر عملية لاستيراد العمالة الكروية إلى بلد عربي لأن عملية الشراء ما تزال مفتوحة.. لكن المؤكد أنها ستتجاوز خلال سنة واحدة كل ما أنفقته المملكة خلال عقد كامل.
والحسبة بسيطة؛ فالدوري السعودي الذي بدأ قبل أيام، يضم ثمانية عشر نادٍ يُسمح لكل منها بتسجيل ثمانية لاعبين أجانب محترفين، أو ما يصل مجموعه في كل الأندية إلى 144 لاعبا. ولو افترضنا، وهو افتراض للتبسيط، أن كلفة اللاعب الواحد عشرة ملايين دولار، فسيصل مجموع الإنفاق على 144 لاعبًا إلى 1.440 مليار دولار أو ما يعادل مجموع ما أنفقته كل الأندية العربية على شراء اللاعبين طيلة عقد كامل. لكن هذا الرقم الأخير يبقى -كما سبق- رقما افتراضيا وليس نهائيا. فباب الانتقالات ما يزال مفتوحا، وبالتالي ستتجاوز الأرقام هذا التقدير المتحفظ بكثير. انظر إلى الأرقام المعلنة بشأن تسعة لاعبين فقط هم رونالدو، وبنزيما، وساديو ماني، ورياض محرز، وفيرمينيو، ونيمار، ونجولو كانتي، وياسين بونو، وهندرسون. ستجد قيمة عقودهم السنوية كما يلي: 200 مليون دولار لرونالدو، و107 لبنزيما، و40 لساديو ماني، و38 لمحرز، و20 لفيرمينيو، و160 لنيمار، و110 لكانتي، و20 لبونو، و15 مليون دولار لهندرسون.
هؤلاء اللاعبون التسعة وحدهم يحصلون على قرابة ثلاثة أرباع المليار دولار سنويا (710 مليون دولار) بخلاف الترضيات والمكافآت الأخرى المكتوبة في عقودهم. وإذا ما أضيفت كلفة باقي اللاعبين الأجانب الـ 144 الآخرين بجانب رواتب اللاعبين المحليين والمدربين الأجانب وأطقمهم المساعدة فسنكون حتمًا أمام رقم فلكي ربما يتجاوز موازنة بعض بلدان الجنوب المتعثرة.
ولا يوجد أدنى شك في أن هؤلاء اللاعبين سيغيرون شكل الدوري السعودي، ليرتقوا بمستواه، ويزيدوا أعداد متابعيه، ليصبح الدوري الأهم في الشرق الأوسط كله، وواحدا من أبرز عشر دوريات حول العالم، كما سترتفع قيمته التسويقية وربما تتضاعف عدة مرات.
كل هذا صحيح.. لكن صحيح أيضا أن تحولا بهذا الحجم يسترعي التفكير المعمق سواء فيه أو فيما وراءه؛ تفكير في الدوري السعودي نفسه بشكله الجديد وفي الدور السعودي الأكبر بتطلعاته المتزايدة، خاصةً وأن المملكة منذ أن أطلقت رؤية 2030، وهي تفاجئ المنطقة والعالم باستراتيجية الأرقام الكبيرة في كل شيء، بما في ذلك في كرة القدم، والتي لو ترجمت كلها إلى كلمة تشرح ما يجري، فلن تخرج عن مشروع لبناء زعامة إقليمية. وهذا تصرف معروف تماما في العلاقات الدولية، ومشروع في علوم السياسة من منظور المصلحة الوطنية، بل وسليم كذلك من الناحية الاقتصادية.. هذا إذا كانت الحسابات دقيقة والأرباح والتكاليف والتبعات محسوبة من كل الزوايا وبشكل سليم. وعلى هامش تلك العلاقة بين الدوري السعودي والدور السعودي تثار بعض الأسئلة والملاحظات يمكن عرضها للتبسيط على النحو التالي:
1- لا ينفصل ترويج الدور السعودي بتنشيط الدوري السعودي عن منهج الحداثة المستوردة المسيطر على المنطقة بأسرها، وليس فقط على السعودية، وهو نهج يستسهل جلب كل شيء من الخارج، بدلا من التعب على بنائه في الداخل. وبسبب تلك الحداثة المستوردة تعمّق الجرح العربي، وتراكمت عقد النقص أمام الخارج، بعد أن أصبحت المنطقة في عيون العالم سوقا للسلع المستوردة والعمالة الوافدة وليست مصنعا للأفكار، وصقل القدرات المحلية الواعدة. وها هي المنطقة تواصل – من بوابة الكرة- ما بدأته عبر بوابتي الاقتصاد والسلاح. فهي لا تفكر في الإحلال محل الواردات وإنما تتوسع في الاستيراد.. تستورد المأكولات والسيارات والطائرات والمعدات، والآن تتوسع في استيراد لاعبين سوبر لا شك بالمرة في إمكاناتهم؛ لكنهم ليسوا من نبت الأرض التي نزلوا عليها، وإنما نسخة مرفهة للغاية من العمالة الوافدة، والموجة الأحدث من موجات الحداثة المستوردة.
وعندما تتسابق 40 محطة تلفزيونية حول العالم لنقل فعاليات الدوري السعودي، فإنها لن تفعل ذلك – حتى لا نوهم أنفسنا- من أجل جاذبية المنتج المحلي، وإنما بسبب تلك الحداثة المستوردة، وبسبب هؤلاء النجوم المستوردين. وهذه المسألة لا تخص المملكة العربية السعودية وحدها، وإنما هي أزمة عربية شاملة. لقد ظل العرب يقولون “بيدي لا بيد عمرو” لكن تماديهم في الحداثة المستوردة هو الذي سمح مِرارًا ليد عمرو – حتى في كرة القدم- بأن تكون هي العليا.
2- سؤال آخر يتصل بما يجري وهل يعتبر تحولا نهائيا لا رجعة عنه، أم طفرة مؤقتة مُعرّضة للتوقف، بعد أن تستنفد أهدافها أو تنفد أموالها؟ هل ستستطيع الكرة السعودية “استدامة” ذلك الشكل “المعولم” والمثير من دوريها الكروي، أم سيسدل عليه الستار بعد حين ليعود إلى ما كان عليه من قبل؟ لو كان الأمر بالتمني؛ لتمنيت للدوري السعودي، ولكل تجربة عربية، النجاح والاستدامة. لكن تاريخ الأعمال الكبرى في منطقتنا بأسرها- يُعلّمنا التريث عند القطع بشأن موضوع الاستدامة هذا مع أي تجربة جديدة، خاصةً أنه لا يخفى ما يعرفه القاصي والداني عن قصر نفس العرب في استكمال ما بدأوه ومشكلاتهم العديدة مع “الفينيشينج” وتكرر تجاربهم في عدم استدامة النجاح.
3- من المؤكد أن الدوري السعودي بحلته الجديدة؛ سيتسبب في ارتفاع أسعار اللاعبين في المنطقة بأسرها. فهل ستدخل البلدان العربية في منافسة مع السعودية لتقديم دوريات شبيهة؟ هل لديها الرغبة؟ وإن كانت تملك الرغبة فهل لديها المقدرة؟ وهل المنافسة مع المال السعودي ممكنة من الأصل؟ الإمارات التي جاءت ثانية بعد السعودية خلال الفترة من 2011 إلى 2020، حيث اشترت أنديتها لاعبين بنحو 373.5 مليون دولار أو ما يعادل 25.6% من إجمالي الإنفاق العربي خلال هذا العقد، لم تتسرع في استنساخ الموديل السعودي، وإنما بدأت في تطوير نموذج آخر يعتمد على التوسع في شراء الأندية الخاصة في الداخل والخارج على السواء، باعتبارها مشروعات ربحية من ناحية، وطريقة مختلفة من ناحية أخرى عن الطريقة السعودية، مع عدم استبعاد شراء قلة قليلة من لاعبي الصف الأول لضمهم إلى الدوري الإماراتي لكي لا يفقد بريقه وينصرف عنه الجمهور. وربما اتجهت قطر بدورها في نفس الاتجاه. الثابت من حجم الانفاق السعودي غير المسبوق على شراء اللاعبين أن المملكة، بدون قصد، بدأت في تصدير تضخم الأسعار الكروية ليس فقط إلى باقي الأندية الخليجية والعربية بل وحتى للأندية الأوروبية، باعتراف مدربين و مسئولين ومحللين أوروبيين شعروا بوصول الدور السعودي إلى ساحاتهم عبر بوابة الدوري السعودي.
4- ليس خافيا على أحد أن تحديث الدوري السعودي، عبر الاستيراد المكثف للأسماء اللامعة، لم يأت بمبادرة مستقلة من الأندية السعودية، وإنما بدفع معلن من الدولة، فالدولة هي اللاعب الأول والأهم وسيبقى لذلك دورها أهم من دوريها. وقد ارتأت الدولة لتعزيز دورها ولتحقيق رؤية2030، أن تسير بسرعة في خصخصة الأندية الرياضية، وتحويلها إلى مشروعات استثمارية. وضمن هذا التصور بات صندوق الاستثمارات العامة السعودي يمتلك 75% من الأندية الأربعة الأكبر في المملكة، كما أن شركات رائدة تُعدُّ درةً للدولة بدأت بدورها في الظهور في المشهد الرياضي، فانتقلت على سبيل المثال ملكية نادي القادسية السعودي إلى شركة أرامكو. وهذا الاتجاه لا عيب فيه بالمرة؛ بل يعد اليوم طبيعيا، إن لم يكن مثاليا، لأنه يحوّل كرة القدم من رياضة إلى صناعة تعمل بحسب آليات السوق وتستهدف الربح. لكن ذلك كله لا يستطيع أن يتجاهل أن الاقتصاد السعودي، شأنه شأن اقتصادات المنطقة، اقتصاد ريعي، الدولة فيه هي التي تملك، وهي التي تطلق المبادرات فلا تسمح للقطاع الخاص باستقلالية حقيقية أو كاملة، إلا إذا أمرت هي بها. فهي التي تمنح وتمنع، وهي التي تحدد الأندية المحظية التي تحصل على القسم الأكبر من الكعكة، مثلما جرى عند اختيار أندية الهلال والنصر والأهلي والاتحاد لتكون تحت رعاية صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ما تسبب في دفع متعاطفين مع فرق أخرى مثل الشباب والاتفاق إلى الحديث عن ظلم وقع عليهم بسبب تلك التجربة المدارة من المركز.
لذلك، فالحديث عن استقلالية الأندية وتمتعها بحق إدارة أصولها، يجب أن يؤخذ بقدر من التأني، إلى أن تثبت بالفعل صحته لسبب بسيط، هو أن الاقتصاد الريعي بقدر ما هو رائع فهو أيضا مروع لأنه يربي المجتمع كله، بما في ذلك أنديته الرياضية، على الاعتماد التام على الدولة، وليس على الاستقلالية وتحمل المسئولية. بجانب أن الاقتصاد الريعي عادةً ما يدار بعقلية مزاجية تتقلب مع كل تقلب في عوائد الريع. فهل سيبعد الدوري السعودي في شكله الجديد وهل سيبتعد الدور السعودي للدولة الجديدة عن التفكير بالريع والإدارة بالريع؟ الأمر سابق لأوانه وسيبقى محلا للاختبار سواء للأندية بدوريها أو للدولة ودورها.
5- لوحظ مع انطلاق الشكل الجديد للدوري السعودي (دوري روشن) نسبة إلى شركة “روشن” العقارية الراعية له، والتابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، لوحظ خروج أصوات سعودية منتشية تتفاخر بالواقع الإقليمي الكروي الجديد على نحو تسبب في حدوث ملاسنات غير مستحبة بين أصوات سعودية وأصوات تعارضها في ساحات عربية أخرى، أبرزها ما جرى عندما شعر معلقين وفنانين ومواطنين مصريين بالغضب فاندفعوا للرد على الإعلامي السعودي وليد الفراج الذي قلل من قيمة “ديربي” الأهلي والزمالك في مصر؛ معتبرا أنه تحول إلى حدث محلي، بعد أن تقدمت “ديربيات” المملكة إلى مصاف العالمية. أضف إلى ذلك ما صاحب انطلاق النسخة الجديدة من دوري “روشن” من تعليقات جارحة ظهرت على مواقع بعض مشجعي الفرق السعودية، تنال من دوريات الكرة في باقي بلدان المنطقة. مثل هذه السلوكيات الفجة لا تزيد حتى الآن عن حالات محدودة، كما أنها لا تمثل ولا تعكس بالمرة نهج الدولة السعودية، لكن علينا أن نتذكر أن المشكلات في العلاقات الدولية لا تقع إلا بهذه الطريقة. يفتعلها أفراد وتتحملها حكومات. وهو ما يؤكد على حاجة الدوري السعودي المنطلق إلى الدور السعودي المتوازن لمنع النرجسية الرياضية من المساس بمشاعر شعوب أخرى على أتم استعداد للغضب والانفعال، حتى لو كان الأمر يتعلق بنشاط بسيط مثل الكرة، وحتى لا “يُخلق من الحبة قُبة”.
6- يبقى فقه الأولويات لُغزا كبيرا. فهل تستحق كرة القدم كل البلايين التي تصرف عليها؟ وهل تستطيع الرياضة في بلادنا العربية الريعية؛ أن تكون قاطرة للنهضة والتغيير والإصلاح. لقد سمعنا كثيرا عن أن كرة القدم قوة ناعمة، وسمعنا بالمثل عن دبلوماسية الكرة، وعن أن الرياضة محفز للتنمية إلى حد وصل إلى أن كثيرا من عامة الناس، باتوا يرددون ذلك كمحفوظات. لكن هل هذا حقا سليم؟ لا أعلم. ما أعلمه مثل غيري أن طريقة الإدارة الرياضية في بلادنا العربية تختلف كل الاختلاف عن طريقة إدارة الرياضة في السياق الأوروبي. لكن لما لا نتمسك بالأمل لعل الأمور تتغير، ولعل فقه الأولويات ينضبط، ولعل فقه الكرة ينجح في إثبات جدواه الاقتصادية، وهو ما سيكشف عنه الدوري السعودي والدور السعودي معا.
باختصار، لم يكن الدوري السعودي ليكبر إلا لأن الدور السعودي نفسه يكبر. وسيظل الدوري السعودي يكبر طالما أن الدور السعودي نفسه يكبر محليا وإقليميا. دوري الكرة السعودي الجديد رسالة للداخل والخارج معاً تتخطى المدلولات الرياضة لتعلن بجانب الحراك السياحي والفني عن ميلاد دور سعودي جديد، يسعى إقليميا لشغل الفراغ الذي تركته الدول العربية الكبيرة، ولمزاحمة قوى إقليمية أخرى لديها مواردها ومشروعاتها، وتعمل بالمثل على تعزيز مكانتها ونفوذها. كما يسعى على المستوى المحلي إلى إحداث نقلة نوعية في تطور الملكية في السعودية، يضع فيها جيل الأحفاد بصمته المختلفة. والمأمول أن تكون بصمة إيجابية في الداخل والخارج. فمن يكره لو نجح الدوري السعودي الموظف ضمن مشروع سياسي كبير في تغيير ولو جزء من اقتصاد الريع وثقافة الريع ودولة الريع ومجتمع الريع؟ لا أحد يكره مثل هذا النجاح إن تحقق. ومن يكره إن نجح الدوري السعودي إقليميا بعد أن فتح أبوابه للغرباء أن يفتحها أيضا للأقرباء؟ لا أحد يكره ذلك باليقين ولا أي تقارب وترابط عربي يتحقق حتى ولو من بوابة الكرة. لكن الدوري السعودي لن يستطيع أن يقوم لا بهذا ولا ذاك بدون أن يكون الدور السعودي الجديد نفسه لديه النية لذلك. فلننتظر ونأمل خيرًا.