رؤى

الفِطْرَة المَدَنِيَّة.. طوق النجاة في عالم مضطرب!

لا يحتاج الإنسان – في أمور عديدة في حياته- إلى حسابات معقدة؛ لكي يدرك ما يجب عليه أن يفعله؛ فالفطرة تكفيه. فهي التي تقوده للصواب، وتدله على الطريق. هي التي توجهه تلقائيا؛ لأنه يولد بها ويعرف بفضلها كيف يُقيّم الأشياء.. قد يرتكب خطأً، كأن يسرق أو يقتل أو يغش، لكنه لا يفعل ذلك لأن فطرته أمرته، وإنما لأن غريزته سيطرت عليه. الفطرة هي النقاء التلقائي والطبعة الإنسانية الأصلية قبل أن تشوهها الذنوب والآثام. هي الأحاسيس والمعاني التي لا يحتاج الإنسان لأن يتعلمها. هي البديهة التي تنطبع في النفس من لحظة الميلاد، والصبغة العميقة التي خلق الله البشر عليها.

ومثلما أوجد الله في البشر فِطرة دينية تهديهم إلى البحث في آيات الكون عن قدراته، أوجد أيضا فيهم فطرة مدنية تحملهم على البحث عن مجتمع يطمئنون إليه ويحرصون عليه. وإذا كانت الفِطرة الدينية تتعطل لدى بعض الناس فيلحدون، فإن الفِطرة المدنية بدورها قد تعطب وتتوقف عند بعض الناس فيتمردون ويجرمون. وليست مشاهد القتل والطائفية والفساد والحروب والعنصرية والتهجير القسري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية وسرقة الأصول العامة إلا بضعة دلائل تؤكد على الأزمة الضاربة التي تواجهها الفطرة المدنية. الفطرة المدنية، إذا جاز التعبير، هي الخير السياسي في أنقى صوره. هي التي تبني الدول وتحافظ عليها. هي التي تُجنِّب المجتمعات الحروب الأهلية والمغامرات الخارجية، هي التي تجعل من الاختلاف حالة طبيعية بل وميزة يمكن أن يستفيد منها الجميع. هي التي تُبْقِي المجال العام مفتوحا؛ فلا يسيطر عليه محتكر أو مستبد. هي التي تهدي الأفراد إلى كتابة دستور راقٍ؛ يرى الجميع أنفسهم فيه. هي التي لا تُنْشِئ حكومة إلا والمعارضة معها، وتشجعهما باستمرار على التعايش معا؛ بل وعلى تبادل موقعيهما. هي التي تجعل تداول السلطة مسألة طبيعية وتشجع الناس على كل خير عام ممكن. الفطرة المدنية هي من يشجع على رؤية الآخرين بوصفهم مواطنين، وليسوا خصوما ينتمون إلى جماعات صغيرة مذهبية أو عرقية. وهي صمام الأمان الذي يَحُولُ دون خلط الخاص بالعام أو المال بالسياسة. هي التي تمنع إحالة الآخر إلى مادة للطعن والسخرية، وتدفع الجميع للقبول بأن يكونوا شركاء متساوون في الحقوق والواجبات. هي التي تبقي أجهزة الدولة محايدة تتصرف كقاض عادل وحكم صالح لا يميل لهوى أو يسعى لمصلحة أو يتبع فئة. هي التي ترتقي بإحساس الكافة بالوطن وتعزز رغبتهم في البقاء فيه. هي التي تشجع الناس على تقبل أكثر من حل لنفس المشكلة، ولا تعتبر أن فرض رأي واحد هو الحل. الفطرة المدنية تقف ضد الفردية والأنانية والاحتكار والتزمت في الرأي والتشبث بالمواقع. بفضلها يتقبل الناس الجدل البناء والحوار المستمر. هي التي تحول دون تكوين ميليشيات فكرية ومذهبية وطائفية لأنها لا تنحاز إلا لرؤية إنسانية واسعة وتبحث باستمرار عن أكبر قاسم إنساني مشترك.

لكن أكثر المعاني السابقة بدأت تتراجع ليس فقط في جل البلدان العربية، وإنما في بلدان أخرى عديدة نامية ومتقدمة على السواء. ولا غرابة في الأمر، فنحن نعيش زمن انحسار المألوف وإنكار البديهيات. زمن سائل ومفكك ومزعج أحكمت مادية ما بعد الحداثة فيه قبضتها على معيشة الناس؛ فجعلتهم ينفرون من بعضهم ويتشككون في بعضهم؛ ليدخلوا في حالة ارتباك غير محدودة.

زمن تعطلت فيه فِطَرِهم المدنية وأصبح أكثرهم فيه مذبذبين. فمع أنهم لا يستغنون عن الحياة مع الآخر إلا أنهم -في نفس الوقت- لا يطيقونه. يفرون إلى أجهزة هواتفهم، ليعيشوا معها وبها ولها، مفضلين لمس شاشاتها على التِمَاسِ السلوى مع أناس مثلهم من لحم ودم. باتت الفطرة المدنية حول العالم في أزمة. اضطربت لما ضاقت المسافات بين الناس بسبب الهجرة وتدفق السلع ووسائل التكنولوجيا المتطورة. شعرت مجتمعات عديدة في الغرب مثلا بأن غرباء دخلوا إليها فجأة وبكثرة، فخافوا منهم وخشوا بسبب وجودهم على خصوصياتهم، فحاروا بين قبولهم بالفطرة المدنية أو استبعادهم بالغريزة السياسية. وكان أن انتصرت الغريزة السياسية على الفطرة المدنية في كثير من بلدان الغرب؛ فبرزت تيارات يمينية متطرفة وحركات عنصرية شديدة الخطورة تتصرف بتوحش الغرائز السياسية، وتقضي على أي احتكام للفِطَر المدنية الإنسانية. تيارات لا ترى خطيئة في استمرار سرقة أفريقيا، وإبادة الفلسطينيين، وإبعاد المهاجرين وطرد اللاجئين والتضييق على المجال العام. وليس الشرق بأفضل حالا، بلادنا العربية مثلا تقدم نموذجا آخر لأزمة الفِطرة المدنية. حل فيها الإنسان الخائف محل الإنسان الواثق. تقدم فيها رجل الغريزة على إنسان الفِطرة. باتت الدولة نفسها عبئا على الفِطرة المدنية. سقطت كثيرٌ من العقود الاجتماعية التي كان يفترض أن تدمج الحاكم بالمحكوم، وتجمع الاثنين معا على احترام الفطرة والنزول على أحكامها، فكان أن ظهرت جماعات تشيع الرعب، فردت عليها الحكومات بأساليب تثير الفزع!

لم تعد الدولة العربية تنزل على حكم الفِطرة كما توسم المجتمع فيها عند الاستقلال؛ بل راحت تشارك الناس في صناعة القلق والفوضى والشك. ومن يدقق فيما يجري حوله في هذا العالم سيجد بكل أسف حالة خطيرة لتآكل الفِطرة المدنية على يد دولٍ لا ترحم.. ومجتمعات لا تصبر. كم أنت مسكين أيها الكائن الظالم لنفسه!

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock