على العكس مما يعتقده الكثيرون، ليس مصطلح الأقلية والأقليات، مصطلحًا حياديا؛ فهو بوصفه مفهوما؛ يكون مثيرا للتمايز المزدوج.. فمن جهة الأغلبية، يُعزز الشعور بالفوقية ويُرضي النرجسية المطمئنة إلى السلطان والهيمنة؛ لكنه – في المقابل- يبعث على القلق والتشكك بالآخر.. أما من جهة الأقلية، فهو يُثير الإحساس بالدونية والاضطهاد، والرغبة في الاحتياط من خطر الابتلاع أو الذوبان؛ وهو خطر قد يكون حقيقيا أو مُتخيلًا، كما إنه قد يدفع إلى البحث عن ملجأ للحماية الداخلية أو الخارجية.
وبكلمة.. إنه من أكثر المصطلحات المشحونة بمُغريات الفتنة والتوتر.
يعني مفهوم الأقليات: جماعة ثقافية أو إثنية أو عرقية متميزة بصفات محددة ومتواجدة كجماعة، ولكنها تخضع لسيطرة جماعة أخرى تعيش معها. وتُعتبر فكرة السيطرة أو الهيمنة هي العنصر الحاكم في دلالات هذا المعنى الذي يعنيه مصطلح الأقليات.
بناءً على ذلك، فإن مفهوم الأقلية لا يرتبط بالضرورة بالتعداد السكاني. ففي بعض الحالات، قد تكون هذه الأقلية أكبر عددًا من الجماعة المُسيطرة أو المُهيمنة، كما كان الحال في جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري. وبهذا المعنى، يُمكن تصنيف الأمازيع في المغرب العربي؛ هذا فضلا عن أقليات أخرى يتقاطع فيها عنصر التمايز مع التركز الجغرافي، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الأكراد في العراق، والأفارقة في السودان (قبل أن يقسّم إلى دولتين: السودان وجنوب السودان.
أيضا، هناك أقليات فعلية من حيث العدد، تعيش وسط المجتمع دون أي تمايز ظاهري، من حيث المنطقة أو اللغة أو الشكل، لكنها تعاني أشكالا من التمييز، مثل كثير من الأقليات الدينية على امتداد المنطقة العربية. وهنا، يمكن أن نلاحظ كيف يصنّف المسلمين إلى سنة وشيعة، وكيف يصنّف كل منهما إلى طوائف على أساس من المذهب. وبالتأكيد، فإن ما ينطبق على المسلمين، من حيث تمدد التصنيفات، ينطبق على المسيحيين واليهود.
وهكذا، يُمكن القول: إن الأقلية هي ـ بالأساس ـ إما أقلية عددية، وإما أنها أقلية بحكم وضعها المجتمعي: الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، بفعل سيطرة وهيمنة جماعة أخرى عليها، وتمارس التمييز ضدها.. وبعبارة أخرى، تُصبح الأقلية أقلية إذا كانت تتلقى مُعاملة غير متساوية مع باقي المواطنين، بسبب صفات جسدية أو عقائدية أو ثقافية أو اجتماعية خاصة بها.
الأقليات العربية
ورغم أن التعامل مع حالة الأقليات في المنطقة العربية، كان يجري ـ كما يبدو بوضوح في أدبيات الخطاب العربي ـ من منطلق التنوع والثراء الحضاري، بل واعتبار أن مثل تلك التمايزات العرقية والدينية والمذهبية، هي من قبيل التنوع في إطار “الوحدة الثقافية العربية”.. إلا أنه، وفي ظل عديد من أنظمة الحكم الشمولية، تفاقمت مشكلات الأقليات، خاصة في إطار فشل هذه الأنظمة على كافة الأصعدة، ولاسيما التنمية والعدالة الاجتماعية. وهو ما دفع كل أقلية بالشعور بأنها مضطهدة لذاتها ولكونها أقلية.
بل إن فشل الدولة واختصارها في مفهوم “الدولة البوليسية” جعل كل من تلك الأقليات تعود إلى انتماءات ما قبل الدولة الحديثة، بمعزل عن فكرة ومفهوم الوطن الذي هو بوتقة تضم الجميع.
صحيح أنه لا توجد دولة في العالم تقوم على نقاء عرقي خالص، وأن هذه الدول تكونت عبر اختلاط وتمازج طويل المدى للعديد من المجموعات البشرية في ظروف تاريخية مُعينة.. إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضًا، أن سياسات الأنظمة الحاكمة، وتغليب مصالحها الذاتية، أدى إلى تزايد المشكلات الخاصة بالأقليات، في الإطار العام لما ولّدته تلك الأنظمة من فشل مجتمعي عام على امتداد عقود طويلة من الزمان.
بل، إن الجدير بالتأمل، هنا، أنه في غمرة هذا الفشل نُسِيَ، أو تُنُسِيَ، الدور الوطني الذي قامت به أقليات كثيرة، على امتداد سنوات طويلة من التاريخ، من دور وطني بارز ضد الغزاة والمستعمرين.
في هذا السياق، يُمكن تناول الأقليات في منطقة المغرب العربي.
الأقليات المغاربية
فهناك الأقليات الزنجية، في موريتانيا، وهي عبارة عن أعراق ومكونات اجتماعية مختلفة، وهي بالتالي ليست وحدة متجانسة؛ فكل من “الولوف” و”السونيكي” و”الفلان”، وكذلك “البولار”، يمثل عنصرًا اجتماعيًا له لغة خاصة، وموقع على السُلَم الاجتماعي العام في موريتانيا.. لكن المُثير أن ما قد يوحد تلك الأعراق، هو اعتبارها أن العرب مُسيطرون على السلطة ومُحتكرون للدولة.
ومن ثم، فإن حراك الأقليات هناك يعود، في ما يعود إليه، إلى عدم اكتراث الحكومات المُتعاقبة، لمثل هذا التنوع في النسيج الاجتماعي، في بلد انهكته الانقلابات على مدى عقود، ولا زال يحتاج لقطع أشواط كبيرة على درب التحديات المجتمعية.
أيضًا، هناك أقليات من الطوارق في جنوب ليبيا والجزائر؛ إضافة إلى الزنوج الأفارقة واليهود في المغرب؛ فضلًا عن البربر الذين يتمددون في دول المغرب العربي الكبير (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا).
ولعل النموذج الواضح على مسألة الأقليات في منطقة المغرب العربي، هم هذا النوع الأخير: البربر.. إذ، يصل عددهم إلى حوالي 20 مليونًا، ويطالبون بجعل اللغة الأمازيغية لغتهم الرسمية، وهو ما يقترب من التحقق في تونس والمغرب. فقد خصص التليفزيون المغربي، كمثال، حوالي “5 ـ 10” دقائق يوميًا لبث نشرات الأخبار باللغة الأمازيغية.