فن

موّال “حسن ونعيمة”.. عن الحب والتقاليد وبشاعة الانتقام (1-2)

يبدو أن حق المرأة في اختيار شريك حياتها؛ لم يزل -إلى الآن- من الأمور غير المعترف بها، على نطاق واسع في المجتمع العربي، خاصة إذا كان ذلك الاختيار يتعارض مع رأي الأسرة، التي تحتضن الفتاة منذ لحظة ميلادها، إلى أن تُسلّم إلى رَجُلِها.. وقد يكون ذلك بداية لأسرٍ جديد لإرادتها الحرة، وكبت مقنع لرغباتها واختياراتها، وهو الأمر الذي لا تشعر معه الكثير من الأسر والعائلات، بأية غضاضة أو تحتاج إلى إعادة التفكير بشأنه.

فإذا ما قررت الفتاة التمسك بحقها في اختيار زوج المستقبل؛ محطمة القيود التي يفرضها المجتمع بكل ما فيه من طبقية اجتماعية ومادية، ومتمردة على الأسوار التي شيدتها الأسرة من حجر صوان، سواء باسم الأعراف البالية أو المصالح المتبادلة؛ فلن تواجه تلك الفتاة المسكينة سوى العزل والقهر والإجبار على حياةٍ، لا ترغب فيها مع رجل ربما لا تطيق مجرد النظر في وجهه.

وبذلك تصل قدسية الرضوخ الأسري للمصالح والتسليم بالأعراف، بكل ما يطرأ عليها من تغير وتبدل، إلى قدسية الشرائع الدينية، بكل ما فيها من ثبوت ورسوخ!

فأين هي حقوق المتحابين، في ظل سلطة الأعراف المجتمعية والتقاليد المتوارثة والمصالح المتبادلة والأطماع المتأججة؟ وهل حقًّا لا تعترف الشرائع الدينية بالحق في الحب؛ فتضع القيود للتفريق بين الأحبّة بكل تعنت وظلم، أم أن أعراف المجتمع وأطماع البشر، من الممكن أن تكون لها من السلطة والتسلط، ما يساعد على قهر كل ضعيف، وقمع أية مشاعر جميلة في القلوب؟ وإلى متى تظل سلطة الحب وأحكام القلوب هي الأضعف أمام سلطة الأسرة وقراراتها الجبرية؟

ولماذا تتمسك المجتمعات المنغلقة -في كثير من الأحيان- بقهر المرأة بوصفها الكائن الأضعف من الرجل؛ فتحرمها من حقها في الحب وفي الزواج بمن تحب، وفي أحيان أخرى تسلب ذات الحق من الرجل، وكأنه ما زال طفلًا صغيرًا غير قادر على اختيار ما يلائمه، أو غير مؤهل لتحمل مسئولية اختياراته؟ .. يبدو أنه لا مفر من طرق باب الحرية مرة أخرى، وربما لن تكون الأخيرة، خاصة في تلك المجتمعات التي نأت بنفسها عن الاستمتاع بأعظم منح الحياة؛ ففرَّطت في أجلّ وأرقى ما فيها!

يقول الراوي في الموال الشعبي الشهير “حسن ونعيمة”: “كلامنا بلدي، اسمع يا ولدي، قصة عظيمة حسن ونعيمة.. أصل الحكاية حادثة تِبَكي سليم القلب.. ومن الصعيد للبحيرة ألِّفوا موال.. أصل القضية بُنية حلوة ونعيمة، وأهلها أغنياء بالمال ونعيمة.. الحب خلَّى الغزالة اتعلقت بالنمس، اسمع رواية لحسن النمس ونعيمة.. حسن المُغني دعوه في منشية أبو حنبل أول قسم للمنيا مركز بني مزار.. غنَّى الكروان وألحان النغم شبابيك، وطلعوا البنات في العلالي وفتحوا الشبابيك، قالت نعيمة غرامي يا حسن شبا بيك.. الحب خلَّى نعيمة فِكرها مشغول، وسابت بلدها وأبوها من اللي صار مشغول، الفكر والعار وكلام البلد مشغول.. غابت نعيمة ليها مدة سبع أيام، بتشوف حبيبها الوحيد .. راحت له وقالت له العرض متصان وإنت يا حسن مش غول.. طلعوا الأهالي وخدوا البِنية بلدهم والكلام بطَّال.. نعيمة حرة شريفة حماها الله من البطَّال، واللي راحت له جدع بين الرجال بطل، لكن المصيبة كلام الخلق ما يبطل.. جالها ولد عمها وقال لها مش عيب وأنا خطيبك، وصرفت مالي عليكي تهجري مش عيب، قالت يا اخويا العيون تنظر لمن تهواه، الحب خلَّى زليخة للصدّيق تهواه، بحبه لله، ومن قصد الحلال مش عيب …”.

الحكاية الشعبية “حسن ونعيمة” من الشائع أن وقائعها الحقيقية حدثت في صعيد مصر، وامتزجت أحداثها بالمخيلة الشعبية، ثم انتشرت بأكثر من صيغة بين بقاع الريف المصري، من الجنوب إلى الشمال. وقد صاغ فن الموال الشعبي تلك الحكاية، وغيرها من القصص والحكايات، عندما كان ذلك الفن هو أحد أهم الفنون الترفيهية، في المجتمع الريفي قبل أن تكون هناك إذاعة، وقبل أن يجذب جهاز التلفاز المشاهدين؛ كي يجلسوا أمامه دون حراك. وبصوت الفنان الشعبي محمد طه ذاع صيت موال “حسن ونعيمة” في كل مكان؛ ليظل أحد أشهر المواويل الشعبية القصصية في مصر.

في النصف الأول من القرن الماضي.. كان فن الموال الشعبي بكل ألوانه التي تشمل: الحكايات، والقصص، والأساطير، والخرافات، والحكم، والأمثال شاهدًا بشكلٍ ما على  ما يدور في المجتمعات الشعبية والريفية، وما يشغل عوام الناس في حاضرهم، وما يُحتفظ به في الذاكرة الجماعية؛ ذلك أن المواويل الشعبية خاصة المواويل القصصية؛ لم تكن مجرد وسيلة للترفيه عن الناس وتسليتهم بحكايات يتغنى بها المغنواتية في ليالي السمر أو في المناسبات والأفراح؛ بل كانت أيضًا وسيلة للبوح عما يدور في المجتمع الشعبي والريفي، وما يرغب الكثيرون في الإفصاح عنه دون مقدرة على النطق به صراحة وبوضوح، ربما لاختلافه عما هو شائع وسائد، وربما لأنه يعبر عن صوت من لا صوت لهم، و من لا يستمع إليهم أحد.

وكان من بين هذه المواويل الموال الشعبي القصصي “حسن ونعيمة” الذي يحكي من خلال قصة حب؛ تقع أحداثها في إحدى قرى الريف، عواقب وقوع الفتاة الريفية في الحب، ونظرة المجتمع الدونية للمغنواتية، وكيف يجبر الأب ابنته على الزواج من قريبها تلبية لمصلحته المادية، دون اكتراث بما يجب أن يقوم عليه الزواج من قبول ومودة بين الزوجين.

كما عبَّر هذا الموال الشعبي، عما يمكن أن تتعرض له الفتاة الريفية، إذا تمردت على سلطة أهلها، وتمكنت من الهروب مما تعانيه، من قسوة وتعذيب بدني ونفسي، وكيف ينجذب الناس للخوض في أعراض الفتيات، دون دليل أو مشاهدة.. بينما لا يجرؤون على الاعتراض على استبداد الأهالي بأبنائهم أو على إلزامهم بطاعتهم، تكبيلا لحريتهم وقمعًا لاستقلالهم، في اتخاذ أية قرارات تتعلق بحياتهم الشخصية. فلماذا إذن يقبل مجتمع ما ذلك النوع من القهر الأسري، ويسكت عن المطالبة بحق نعيمة وحق كل فتاة في اختيار شريك حياتها، أو في رفض الزواج من شخص لا تحبه؟!

ويسرد بعد ذلك موال “حسن ونعيمة” عواقب قهر والد نعيمة لها؛ إذ سهَّل ذلك على ابن عمها وخطيبها أن يتسلط هو الآخر عليها، بكل جبروت فلم يخش من تهديدها بقتل حبيبها (حسن) أمام عينيها؛ عقابًا لها على تمردها على أسرتها وهروبها إليه في غفلة منهم.

وبالرغم من انتصار نعيمة لعاطفة قلبها، تجاه حسن المغنواتي، دون مبالاة بعواقب هروبها من أهلها، وذهابها لداره ومكوثها عنده لبضعة أيام؛ إلَّا أن العقلية القمعية لا تبالي بالمشاعر النبيلة الصادقة، ولا تضع في حسبانها ما تتكبده القلوب الجريحة من ويلات البعد عن المحبوب؛ ولذلك كان لابد لتلك العقلية أن تتسلح بمبرر قوي، يسمح لها بمعاودة مسيرة تسلطها، ولن يكون هناك مبرر أقوى من الإدعاء بالانتقام للشرف؛ حتى بعد التأكد من أنه لم يُمسّ أو يُلوَّث، وكأن القتل هو الضريبة المفروضة مسبقًا وبكل تعنت على من يخالف كل ما هو سائد، أو يفكر في الاستقلال بنفسه بعيدًا عن عباءة كبير العائلة، ضاربًا بقراراته عرض الحائط! فهل ذلك المصير القاسي تستحقه كل نعيمة؛ ترفض الزواج بابن عمها، أو بأي رجل اختارته أسرتها وفرضته عليها رغمًا عنها؟!

يبدو أنه في كثير من الأحيان يكون ثمن الحب باهظًا، وهذا الموال بما يحويه من جرس للتنبيه بعواقب تمرد الفتيات على أسرهم، من خلال إنهاء حياة حسن.. وما تجرعته نعيمة من ألم؛ سيظل بمثابة التحذير الذي لا يجب تجاهله. فهل من الأفضل والأسلم، أن يتجنب كل عاشق خوض أية مغامرة تدفعه إلى التمرد، على ظروفه أو التمسك بحقه في حياة يغمرها الحب، فلا يستجيب إلى لوعة الشوق وأنينه؛ بل يُسلِّم بقدَر الفراق قامعًا في صدره كل حنين إلى اللقاء؟!

“ياللي زرعت الحب ليه تزرع في قلبه مرار؟ وليه تخلي حلاوته للحبايب نار؟”

https://www.youtube.com/watch?v=SP9VHOJj6CM

وإذا لم يكن هناك مفر من الاختيار بين الحرية والحق في الحب، وبين الخوف من تلوث السمعة والمساس بالشرف، فأيهما إذن تختار الفتاة؟ هل تختار الوقوف في وجه الجميع أم الوقوف معهم أمام قوة إرادتها وحريتها في حياة تختارها؟!

إن الحرية ترادف الحياة والخوف يعني فقدان معنى الحياة، أما الحب كمعنى رئيس في الحياة فبالقطع يستحق التضحية بكل غالٍ ونفيس، وهل هناك ما هو أغلى من الحياة للتضحية بها من أجل المحبوب الذي يمنح القرب منه كل معنى للسعادة؟!

وهكذا يذكر لنا الراوي في الموال الشعبي الأشهر “حسن ونعيمة” أن ابن عم نعيمة وخطيبها الذي لا تريد الزواج منه قد توَّعدها بقطع رقبة حسن بيده، وبالفعل احتال عليه وأوهمه بالسفر معه للغناء في فرح في بلدته، وهناك حدثت جريمة القتل التي كان يعلم بها العمدة وشيخ البلد، ولكن نعيمة التي شهدت جريمة قتل حبيبها بكل بشاعة؛ استطاعت أن تُخفي رأس حسن، فدفنتها بعيدًا عن جثته دون أن يشعر بها أحد.

وعندما أُبلغت الشرطة بالعثور على جثة تطفو فوق المياه بدون رأس، بدأ رجال الشرطة في البحث عن رأس القتيل وعن قاتله، إلى أن اعترفت نعيمة على أبيها وأخيها وابن عمها، فكان الحكم بتبرئة العمدة وشيخ البلد رغم تسترهما على القتلة، وبمعاقبة قاتلي حسن من أسرة نعيمة بالسجن المؤبد لأخيها وابن عمها، ولأبيها بالسجن لمدة عشر سنوات، وهو الحُكم الذي رأته نعيمة ظلمًا؛ ولذلك يقول الراوي في مواضع متفرقة من الموال: “الحُكم يا بيه ظلم.. في العهد السابق من الرشوة والغش مات خلق مظلومين.. يا ظالم الناس الرب موجود.. قولوا لأبويا حسن مظلوم”.

وهكذا يتردد على لسان الراوي بين ثنايا هذا الموال الشعبي كلمة الحق التي تدافع عن المظلومين، مثلما ينتقد في طياته نظرة المجتمع للحب الشريف، والقيود التي تفرضها الأسرة بكل تعنت؛ للتفرقة بين المتحابين دون رحمة أو شفقة، وكيف يمكن لكلام الناس أن يلوث شرف الأبرياء بدون دليل، وكيف يصل القهر لحق الإنسان في اختيار شريك حياته، بحرية إلى حد القتل -وبكل بشاعة- للتخلص من إنسان بريء؛ كانت جريمته أنه أحب بكل عِفّة!

فهل ما أفصح عنه ذلك الموال الشعبي كان يعبر حقًّا عن أحوال المجتمع الريفي، وعما يخفيه من سلبيات؟! هذا ما سنجيب عليه بالتفصيل في تتمة هذ المقال.

 

 

 

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock